إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



"بضاعة اعلامية" كاسدة

الخميس 23/7/2009
برهوم جرايسي- "الغد" الاردنية

قبل عدة سنوات، مع بدايات عصر مواقع الانترنت، كنت قد عملت على إقامة أحد المواقع الإخبارية، وصادفت الأيام الأولى لظهور ذلك الموقع عدوانا احتلاليا إجراميا على قطاع غزة، ارتكبت خلاله مجازر راحت ضحيتها عائلات بأكملها.
وفي تلك الأيام، إذا بي أتلقى محادثة هاتفية في مكتبي من الناطق بلسان جيش الاحتلال، وكان قد بدأ عمله حديثا، وراح "يشكرني" على "مودوعية" الموقع الإخباري، أي موضوعية، بلهجته المتكسرة، حينها بالفعل هبط قلبي وارتجت مفاصلي، ورحت افحص نفسي، لأنه: إذا أتاني المديح من عدوي فواجب عليّ فحص نفسي.
وكان جوابي الفوري له: أنا لست بحاجة لأي مبالغة وتهويل، فيكفي أن أنشر 20% و10% من جرائمكم على الأرض، لتظهر بشاعة ما تقترفون، وبعد الفحص الدقيق مع ذاتي ومع ما نشر حتى تلك اللحظة، ارتحت متيقنا أنها مكالمة تملق كاذبة، وكل ما في الأمر أن النشر تضمن مزاعم الاحتلال لتبرير جرائمه.
وتحضرني هذه الحادثة في هذه الأيام، بعد أن تناقلت وسائل إعلام عربية خبرا نشرته صحيفة عربية، وتقتبس شخصيات معينة تدعي أن لديها معلومات بأن ترحيل فلسطينيي 48 من وطنهم سيبدأ فعليا في العام 2010، أي في العام المقبل، وسيتم ترحيلنا إلى الضفة الغربية والأردن.
وأنا أقرأ الخبر في مصدره الأول، مضطرا نتيجة الاتصالات العديدة، انتابني الضحك تارة والغضب تارات وأكثر، فقلت ضاحكا، إذا كان الترحيل للأردن، فعلى الأقل المشكلة محلولة، فالأصدقاء كثر، والأردن بلد الكرم وما بعده كرم.
ولكن الغضب كان شديدا، لأن قليلا من المنطق واحترام 1,2 مليون نسمة، والاعتراف بصمودهم ونضالهم، كان كافيا لعدم نشر خبر كهذا، لأن فلسطينيي 48 ليسوا دجاجا في أقفاص ينتظرون شاحنة تقلهم إلى حيث شاء "بنو إسرائيل" وصهيونيتهم،
ونضالهم على مر أكثر من 61 عاما، وتشبثهم بالأرض والهوية، قادر على تعطيل "دواليب" شاحنات نقلنا إلى الضفة والأردن.
وهذا النضال وهذا الصمود في ظل أشرس سياسة عنصرية عرفها العصر الحديث، اضطر المؤسسة الصهيونية، والمؤسسة الإسرائيلية كأداة تنفيذية للأولى، تغيير اتجاهات التعامل معنا أكثر من مرّة، وفي السنوات الأخيرة نشهد تصعيدا خطيرا لسياسة تضييق الخناق من اجل دفعنا على الرحيل، ولكن كل المعطيات السكانية الإسرائيلية الرسمية تثبت أن معدل الولادات لدينا ما زال أعلى، ولا توجد أعدادا للمهاجرين من بيننا تصل إلى مستوى أدنى نسبة مئوية، بل إن الهجرة تتزايد لدى اليهود الإسرائيليين، الذين يعودون إلى الأوطان التي جاؤوا منها.
كذلك فإن الغضب الشديد هو لأن السياسة العنصرية الإسرائيلية ليست بحاجة إلى تهويل وبهذا المستوى، فما ستقول تلك الصحيفة بعد عام ونصف العام، مع انتهاء العام 2010، وستجد أن فلسطينيي 48 ما زالوا في وطنهم، وحتى أن الشاحنات لم تصل إلى بلداتهم، هل ستقول إن السياسة العنصرية باتت أخف وطأة لأنها "تراجعت" عن الترحيل المفترض.
إن بث أخبار تهويلية بهذا المستوى يساهم في حجب الأنظار عن القضية الأساس، لأن إسرائيل والناطقين بلسانها، ولو طلب منهم الرد على أنباء كهذه في وسائل الإعلام الإعلامية، سيكون بإمكانهم دحضها بسرعة، لتستغل المنابر، وتبدأ كعادتها بالتذمر من "المبالغة" في وصفها بالعنصرية.
إن المسؤولية السياسية والوطنية تتطلب أيضا الابتعاد عن خطاب المبالغة والتهويل، الذي بطبيعة الحال لا يقتصر على هذا النبأ، بل هو حالة قائمة منتشرة بشكل واسع، وباتت وسيلة لترويج هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك وحتى لتسويق حركات وشخصيات سياسية وغيرها، بينما ما نحتاجه هو طرح الصورة بدقتها كما هي، والتضامن الفعلي الحقيقي، لأن المبالغة تفتح باب التشكيك على وسعه، ونحن نريد جماهير مقتنعة بواقع حالنا، لتكون على قناعة في وقوفها إلى جانبنا في نضالنا العنيد.
لقد قالها شاعرنا توفيق زياد قبل أكثر من 40 عاما، "على صدورهم باقون"، و"إنا باقون على العهد"، وكل وسائل الترحيل لم تنفع، ولن تنفع الوسائل القادمة، فنحن لسنا من "ضيعة قليلة"، والأردن ليس بلد مشاع، سنواصل السفر إليه زوارا وطلابا، أما اللجوء فهو للوطن وحده، إما على الأرض أرضنا أو فيها.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر