إقتصادي إجتماعي
قضايا سياسية عامة
تقارير خاصة
مع الحدث
مقالات الضيوف



التحولات السياسية بين اليهود "الحريديم": من اللامبالاة إلى التطرف اليميني

الثلاثاء 25/8/2009
برهوم جرايسي- "المشهد الاسرائيلي"

*ما هي الأسباب التي جعلت "الحريديم" رافضي الصهيونية، وفكرة الدولة "قبل المسيح"، ثم يقبلونها ككيان مؤقت، يتحولون من اللامبالاة بملفات الصراع الإقليمي إلى "رأس حربة" في التطرف اليميني والاستيطان *الحريديم بين واقع اليوم وأزمة المستقبل*


المشهد السياسي العام الحالي في إسرائيل، يثبت التطرف المتصاعد بين اليهود، حتى أنه لم يسجل ذروة إلا وسعى لذروة أخرى، إلا أن الملفت للنظر في السنوات الأخيرة القليلة، هو أن التطرف السياسي اليميني بدأ يدب أكثر بين أحزاب المتدينين الأصوليين "الحريديم"، الذين طالما وقفوا على هامش الجدل السياسي، ليحققوا مطالبهم الحياتية اليومية وتأمين الميزانيات الضخمة لمعاهدهم ومؤسساتهم، دون إغراق أنفسهم في الجدل الاسرائيلي الداخلي حول الصراع الإقليمي.
فالأحزاب التي "هربت" من جلسات الكنيست لدى التصويت على اتفاقيات السلام أو الاتفاقيات مع الفلسطينيين، أو حتى دعمتها مباشرة، باتت اليوم رأس حربة في المطالبة بتوسيع الاستيطان، وعدم "التنازل" عن أي قطعة أرض من "يهودا والسامرة"- الضفة الغربية، بعد أن كانت قد أطلقت فتاوى تجيز انسحابات كهذه.

مقدمة

يختلف اليهود الأصوليون المتشددون دينيا، أو كما يٌطلق عليهم "الحريديم"، عن باقي المجموعات الدينية الأصولية في الأديان الأخرى، من حيث نمط الحياة، فهم يعيشون في مجتمعات منغلقة ويتبعون نظاما أشبه بـ "الكومونة"، ويبتعدون فيها عن الكثير من وسائل الحياة المتطورة، ويتمسكون بتعاليم دينية متشددة جدا، في ابسط وأدق تفاصيل الحياة اليومية.
وهم يؤمنون أن "مملكة إسرائيل الكبرى" سيقيمها المسيح عندما يأتي إلى العالم للمرّة الأولى، وسيعيد بناء "هيكل سليمان"، وعلى هذا الأساس فهم ناصبوا العداء للحركة الصهيونية منذ نشأتها وهاجموها بقوة وكفروها، وهذا المبدأ ما زال قائما حتى اليوم، بمعنى عداء على خلفية دينية.
وهنا من أجل الفصل والتمييز، فإن بين اليهود حركات دينية أكثر ليبرالية من ناحية دينية، ولكنها متشددة سياسيا، يطلق عليهم اسم "الحركة الدينية الصهيونية"، ولباسهم مدني عادي على الأغلب ويميزون أنفسهم بوضع القلنسوات الملونة على رؤوسهم، وهم اليوم يشكلون حوالي 70% من جمهور المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.
ولكن بعد العام 1948 انقسم جمهور الحريديم، الذي كان في فلسطين، إلى فئتين، وهذا الانقسام في الموقف من الكيان الناشئ الذي يدعى "إسرائيل"، كان أيضا في أكبر تجمعين لهم في العالم، في الولايات المتحدة أساسا، وأيضا في بريطانيا، ودول أوروبية أخرى، وبات هناك الجمهور الرافض للاعتراف بالكيان غير الشرعي دينيا، وتتغلغل فيه طائفتا "ناطوري كارتا" الأكثر تشددا، و"ساتمر"، والغالبية الساحقة من جمهور هاتين الطائفتين موجود خارج إسرائيل، ويشكل الغالبية الساحقة من جمهور الحريديم في الخارج، وبين الحريديم ككل في العالم بما في ذلك إسرائيل.
وواظب هؤلاء على رفضهم للكيان الإسرائيلي ومحاربته، ففي حين اختارت طائفة "ساتمر" الرفض والتجاهل للكيان، فإن بعض فرق طائفة "ناطوري كارتا" اتخذت موقفا أكثر تشددا، ومن بينها فرقة ناصرت الفلسطينيين، ونراهم في وسائل إعلام عربية، وفي نشاطات مناصرة للقضية الفلسطينية، ولكن كل هذا التحرك بدوافع دينية محضة.

أما الجمهور الثاني، الذي يشكل غالبية الحريديم في إسرائيل، ولكنه أقلية في الخارج، وبين الحريديم ككل، فقد قرر التعامل مع الكيان الناشئ، ككيان إداري لتسيير شؤونهم اليومية والمؤسساتية، خاصة وأنهم استوعبوا إمكانية أن يشكل الكيان مصدر تمويل لهم، وبرر هؤلاء لأنفسهم الاعتراف بإسرائيل، بأن هذا كيان مؤقت، إلى حين "يأتي المسيح" ويقيم مملكتهم.
ولكنهم في نفس الوقت واصلوا رفضهم للصهيونية وأيديولوجيتها ورموزها ونشيدها، فمثلا ممثليهم في الكنيست اليوم يرفضون تعريف إسرائيل "دولة صهيونية"، كي لا تكون لهم علاقة بالصهيونية.
وفي البداية كان هؤلاء الحريديم أساسا من اليهود المهاجرين من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، "الأشكناز"، ولاحقا كبر جمهور الحريديم الشرقيين "السفراديم"، وشكل هؤلاء في بدايات إسرائيل أحزابا سياسة صغيرة، ولكنها على أرض الواقع هي أطر دينية لعدة طوائف، وكل طائفة منها تابعة لزعيم روحي صاحب القرار الوحيد، وخاضت الانتخابات ضمن لائحة انتخابية مشتركة، وكانت تضم بداية الأشكناز والسفراديم، مع تمثيل أكثر للأشكناز، وفي حال حصول خلاف داخل الكتلة، فإن مرجعية كل عضو كنيست فيها هذه الكتلة كانت زعيمه الروحي، وليس الكتلة البرلمانية.
إلا أن هذه الكتلة أو الكتل النيابية، لم تشارك في المراحل الأولى في الحكومة، كي لا تتحمل مسؤولية قرارات مدنية تتخذها الحكومة لا تتناسب مع الشريعة اليهودية، إلا في حكومة واحدة في الولاية البرلمانية التي بدأت في العام 1959 واستمرت حتى العام 1961.
واقتصرت المشاركة لاحقا في الحكومة بمنصب نائب وزير، مع صلاحيات واسعة، تصل إلى حد صلاحيات وزير.
ولاحقا مع توسع جمهور الحريديم هذا، توسعت فيه الخلافات الداخلية، واللائحة الانتخابية التي كانت تعرف باسم "أغودات يسرائيل" شهدت انشقاقات عدة، ولكن أبرزها في العام 1984، حينما شكل الحريديم الشرقيون "السفراديم"، حزب "شاس" في العام 1984، بقيادة الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل في النصف الثاني من سنوات السبعين، عوفاديا يوسيف، الذي حصل في انتخابات ذلك العام على أربعة مقاعد، مقابل مقعدين فقط لقائمة الحريديم الأشكناز.
وخلافا لكتلة الأشكناز "أغودات يسرائيل، فإن "شاس" اندمجت في حكومات إسرائيل وتولت وتتولى مناصب وزارية هامة.
وفي العام 1988 شهدت "أغودات يسرائيل" انشقاقا داخليا، إذ خرج منها حزب "ديغل هتوراة"، ولكن بدءا من انتخابات العام 1992، توحدت كتلتا الحريديم الأشكناز تحت اسم "يهدوت هتوراة"، على ضوء تنامي حزب "شاس" الشرقي، الذي اجتاح أيضا جمهور الشرائح الفقيرة من اليهود الشرقيين، من غير الحريديم، إضافة إلى جمهور محافظ، وهو ما عجزت عنه "أغودات يسرائيل" لسنوات طويلة.
وفي الانتخابات الثلاثة الأخيرة تراوح تمثيل لائحتي "شاس" و"يهدوت هتوراة" معا، ما بين 16 مقعدا إلى 18 مقعدا، من أصل 120 مقعدا، رغم أنهما لائحتين تشهدان تناحرا في ما بينهما، وفي أحيان قليلة تنسقان في ما بينهما في أمور دينية، وهذا إضافة إلى أن التناحرات الداخلية لا تتوقف في كتلة "يهدوت هتوراة" ذاتها، على خلفية صراع مراكز قوى بين حاخامات في داخل جمهور الحريديم.
بالإمكان القول، على أساس تقديرات، أن أكثر من 90% من مصوتي "يهدوت هتوراة"، التي لها في الدورة الحالية 5 مقاعد، هم من الحريديم الأشكناز، بينما 70% من مصوتي "شاس" التي لها 11 مقعدا، هم من الحريديم السفراديم، والباقي من الجمهور العام، وبالأساس من اليهود الشرقيين، وخاصة من الشرائح الفقيرة.
ورغم المشاركة في الحياة السياسية المحدودة لقسم من الحريديم، إلا أن كلا الفريقين، المعترف وغير المعترف، رفض الخدمة العسكرية الإلزامية، وشبابهم يحصلون على إعفاء بشكل عام، وفي السنوات القليلة هناك نفر قليل منهم يشاركون في الخدمة العسكرية بفرق ليست مقاتلة، أو في الخدمة المدنية، ولكن الغالبية الساحقة جدا لا تخدم في الجيش، وهذا أمر هام، سنقرأ هنا كيف بات له وزن كبير في مسألة أعداد المجندين إلزاميا للجيش.
إلى ذلك، فإن نسبة مشاركة الفريقين في سوق العمل الإسرائيلي يسجل أدنى مستوى له بين الرجال، وحسب معطيات رسمية، فإن نسبة المشاركة في سوق العمل بينهم لا تصل إلى 40%، وغالبيتهم الساحقة يبقون في المعاهد الدينية ويعتاشون على مخصصات، يتقاضونها إما من خزينة الدولة مباشرة، أو من أطر ومؤسسات الطوائف التي يتبعونها.
ولهذا فإن الانطباع العام في إسرائيل، أن جمهور الحريديم يشكل عبئا اقتصاديا وحتى أمنيا، كما سنقرأ لاحقا.

التعاطي السياسي بين الأمس واليوم

كما ذكر، واعتمادا على قرار الحريديم المعترفين بالكيان ككيان مؤقت، فقد كان
جُلّ اهتمام الأحزاب المنبثقة عنهم، في تعاملها مع المؤسسة الرسمية، يتعلق بشؤونهم الحياتية اليومية، وخاصة على مستوى تلقي المخصصات والميزانيات لمؤسسات ومعاهد هذه الطائفة وفرقها على مختلف تنوعاتها، من شرقيين وغربيين، والأماكن التي هاجروا منها، ولم يكن لهم تدخل واضح في الشأن السياسي العام، وبشكل خاص الجدل المتعلق بالصراع الشرق الأوسطي، وكانت مواقفهم في هذا الملف مرهونة بمصالحهم الآنية في كل مرحلة، وهذا ما أضفى عليهم الطابع الانتهازي الابتزازي، وحرّض الجماهير الواسعة ضدهم.
إلى ذلك، فطوال الفترة الماضية، فإن جهود كتل الحريديم لم تتوقف فقط عند الجانب المالي وشؤونهم، بل نجحوا في الكثير من الأوقات في دس قوانين وأنظمة تعتمد الشرائع الدينية اليهود، تندرج في إطار الإكراه الديني، مثل قانون السبت ومسألة الحلال في المواد الغذائية وغيرها، ومنع الزواج المدني.
وكان الحريديم هم القوة المتشددة أكثر من الأحزاب الدينية الصهيونية، التي أرادت فرض قوانين كهذه، ولكنها في نفس الوقت دعت إلى التفاهم مع الجمهور العلماني في هذه القضايا.
ولأن إسرائيل لم يكن على أجندتها مفاوضات وعملية سياسية حتى مطلع سنوات التسعين، فإن هذا الجمهور وأحزابه، لم يكونوا مطالبين بإبداء الرأي في مسألة الصراع، ولكن ما كان واضحا، مثلا، أن جمهور الحريديم لم يكن من بين عشرات آلاف المستوطنين (بداية) في الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية المحتلة، ولا حتى في الأحياء الاستيطانية في القدس المحتلة، وهو ما تغير لاحقا.
ومع بدايات العملية التفاوضية، وحوارات السلام في العام 1991 وما بعده، وخاصة مسار أوسلو، باتت أحزاب وكتل هذا الجمهور في الكنيست مطالبة بإبداء الرأي كون أن صوتها مقرر في عملية اتخاذ القرار.
فرأينا مثلا، أن حزب "شاس" الشرقي دعم بداية مسار واتفاقيات أوسلو، إلا أنه قبل كل تصويت على أي اتفاق وقرار سياسي كان يسعى لضمان انجاز مالي له، خاصة وأنه كان مشاركا في حكومة يتسحاق رابين، التي بدأت ولايتها في العام 1992، ولاحقا في العام 1995 بعد اغتيال رابين، شاركت في حكومة شمعون بيرس المؤقتة حتى ربيع العام 1996.
وحتى أنه في تلك السنوات، أصدر زعيم "شاس" الروحي، عوفاديا يوسيف، فتوى دينية تجيز "التنازل عن الأراضي" من اجل منع سفك الدماء.
والحال لم يكن مختلفا كثيرا من حيث الجوهر لدى كتلة "يهدوت هتوراة" في تلك السنوات، رغم أنها لم تشارك في حكومة حزب "العمل"، ففي كثير من الأحيان كان نواب الكتلة يغادرون جلسة الكنيست لدى التصويت على القرارات السياسية الهامة، كي لا يعارضوا موقف الحكومة في الاتفاقيات المبرمة، وذلك مقابل صفقات مالية وتفاهمات.
واستمر هذا النمط لدى الكتلتين في ظل حكومة بنيامين نتنياهو الأولى في العام 1996 وحتى العام 1999، وفي ظل حكومة إيهود باراك في العام 1999، وحتى نهاية العام 2000.
إلا أنه بعد العام 2000 بدأنا نلمس تغيرا في لهجة الخطاب السياسي في كلا الكتلتين، "شاس" و"يهدوت هتوراة"، ليتجه أكثر نحو اليمين السياسي الرفضي لآفاق الحل، ولكن قد يعتقد الكثيرون أن هذا منسجما مع التحولات السياسية في إسرائيل، في ظل العدوان الإسرائيلي الذي اندلع في خريف العام 2000 واستمر لسنوات.
إلا أن واقع الأمر يقول إن التحولات العامة كانت لها دور محدود في التحولات بين الحريديم، بينما الدافع الأكبر هو تحولات ديمغرافية بينهم وفي المجتمع اليهودي الإسرائيلي ككل، وعوامل اقتصادية اجتماعية عامة، حفزتهم على تبني مواقف سياسة عنصرية متشددة، كما شهدنا في الأشهر الأخيرة على لسان قادة في حركة "شاس"، ولتكتمل الصورة قبل شرحها هناك قدر الإمكان، نقول أيضا أن اعتبارات حزبية داخلية في جمهور الحريديم ساهمت أيضا في التطرف الذي باتت تعبر عنه حركة "شاس".
فمثلا، لم يكن مألوفا أن يصرح الزعيم السياسي لحركة "شاس" الحالي، بأنه لا تنازل عن البناء الاستيطاني ودعم المستوطنات، بما في ذلك القدس المحتلة، ولم نراه إلى جانب آخرين، في موضع رأس الحربة في رفض آفاق الحل، وهذا لم يكن لدى من سبقه في مكانته السياسية في هذه الحركة.
كذلك لم يكن مألوفا أن يطلق وزير من حزب "شاس" تصريحات عنصرية ضد الفلسطينيين في إسرائيل، رغم انه في السنوات الأخيرة تضم حركة "شاس" نائبا من الحركة، كان في الماضي مقربا من حركة "كاخ الإرهابية، فقد اعتبر وزير الإسكان أريئيل أتياس مؤخرا، أن انتشار الفلسطينيين في إسرائيل خطر، علما أن حركة "شاس" كانت في السنوات الماضية تتعامل مع العرب كـ "مخزن أصوات" في الانتخابات البرلمانية، على خلفيات انتهازية انتفاعية، وهو أمر تراجع إلى مستوى غير ملموس.
ونستعرض هنا الجوانب والأسباب الأساسية للتحولات في أحزاب جمهور الحريديم.

العامل الديمغرافي والسعي للانفصال

نجح الحريديم على مدى سنوات طوال في فرض قوانين تستند للشريعة اليهودية، من أبرزها حركة المواصلات أيام السبت والأعياد، وفتح المرافق التجارية والعامة، في أيام كهذه، إضافة إلى مسألة الحلال، وغيرها.
ولكن مع تطور العصر، وخاصة ما شهدته السنوات الأخيرة من القرن الماضي، من تطور علمي هائل في جميع المجالات، وسعي المجتمع للتحرر من القيود الكثيرة التي تخنق حركته، كانت إسرائيل أكثر من مرّة على شفا انفجارات داخلية على خلفية هذه القوانين والأنظمة.
وما شجع هذه الحركات والتحركات هو تدفق مئات آلاف المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق، ولكن أيضا من دول أخرى، مثل أثيوبيا ودول أميركا الجنوبية، وقليل من أوروبا الغربية والقارة الأميركية الشمالية، وخلال عقد من الزمن بات في إسرائيل مليون مهاجر، عاشوا سابقا في مجتمعات تحررية تخلو منها القيود، ولهذا كان الصعب عليهم التأقلم مع مجتمع مليء بهذه القيود التي باتت لا تتلاءم مع روح العصر المتطور بوتائر متسارعة، خاصة وأنهم المجتمع الذي يسعى دائما إلى التشبه بالمجتمعات الغربية المتطورة.
في مرحلة ما، وبعد صدامات، بدأ قادة الحريديم يستوعبون هذه الحقيقة، وأنه ما عاد بالإمكان تطبيق القوانين والأنظمة بالقدر الذي كان في سنوات سابقة، ولهذا رأينا في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ النصف الثاني من سنوات التسعين وحتى الآن، تزايدا كبيرا في حركة المواصلات الشعبية ايام السبت، ولكن تبقى غالبيتها الساحقة جدا ممنوعة، كما اتسعت بأضعاف حركة التمرد على قوانين السبت في القطاع التجاري، وهناك شبكتا تسوق غذائي تفتح أبوابها أيام السبت، وتراجعت كثيرا أعداد الشوارع في البلدات المختلفة التي كانت تغلق أمام حركة السير أيام السبت والأعياد.
وهذا الوضع دفع قادة الحريديم للتفكير أكثر في مستقبل مجتمعاتهم، وتفادي مسألة الاختلاط بالجمهور العلماني الذي بات أكثر تمردا، وما شجع هذا التفكير هو تنامي أعداد الحريديم بوتائر عالية، فحسب الإحصائيات الرسمية الإسرائيلية، فإن نسبة التكاثر السكاني بين جمهور الحريديم يفوق نسبة 3,4%، إذا أن معدل عدد الولادات للمرأة الواحدة من جمهور الحريديم يتراوح ما بين 7 إلى 9 ولادات، ونسمع كثيرا عن عائلات فيها 10 وحتى 18 ولدا، بينما نسبة التكاثر بين اليهود العلمانيين بالكاد تصل إلى 1,6%، بينما معدل عدد الولادات للأم اليهودية الواحدة من نفس الشريحة يتراوح ما بين 1,5 ولادة إلى ولادتين أو أكثر بقليل، وفي المقابل فإن معدل الولادات بين الفلسطينيين في الداخل هبط في السنوات الأخيرة إلى معدل 3,7 ولادة للأم الواحدة، وهو يميل للتراجع أكثر.
أضف إلى هذا أن معدل سن الزواج بين الحريديم يدور حول 17 إلى 20 عاما للفتيات، وما بين 19 إلى 22 عاما بين الشبان، وأحيانا أكثر، أما سن الزواج بين شرائح العلمانيين فهي تتراوح ما بين 24 عاما وحتى 30 عاما وأحيانا أكثر، لجمهور الشابات والشباب.
وعلى ضوء هذه المعطيات، إضافة إلى الضغط السكاني في التجمعات السكانية الكبرى، القدس ومحيطها الاستيطاني، ومنطقة تل أبيب الكبرى، فقد بدأ الحريديم في التفكير في اتجاه آخر، ليقبلوا بإغراءات السلطة لهم، ببناء تجمعات "سكانية" لهم، مستوطنات في الضفة الغربية، وفي السنوات الأخيرة أقيمت ثلاث مستوطنات، والرابعة قيد الإنشاء كحي سكني، ولكنها مستوطنة جديدة.
وهي مستوطنة "موديعين عيليت"، التي بات عدد المستوطنين فيها أكثر من 38 ألف مستوطن، وتقع قرب مستوطنة موديعين، بين رام الله والقدس المحتلة وأقيمت في العام 1996، والمستوطنة الثانية من حيث الحجم "بيتار عيليت"، وتضم أكثر من 33 ألف مستوطن، ورغم أنها أقيمت في العام 1985، إلا أنها باتت عنوانا للاستيطان الواسع في السنوات الأخيرة، بعد إضافة أحياء استيطانية ضخمة لها،
وهاتان المستوطنتان قد تتحولان إلى الأكبر في الضفة الغربية بعد تجاوز عدد مستوطني مستوطنة "معاليه أدوميم، التي تجاوز عدد المستوطنين فيها 40 ألفا.
والمستوطنة الثالثة هي مستوطنة "إلعاد" التي يعتبرها البعض أنها ليست مستوطنة، لكونها تقع على خط التماس، ولكنها توغلت في السنوات الأخيرة في أراضي 1967، والمستوطنة الرابعة التي قيد الإنشاء، "متتياهو مزراح"، التي تقام على أراضي قرية بلعين المصادرة جنوب منطقة رام الله.
ويستفيد الحريديم من هذه المستوطنات أنها تجمعات سكانية مغلقة عليهم، يطبقون فيها كافة شرائعهم، ويتمتعون في نفس الوقت بامتيازات مالية "سخية" تدفعها حكومات إسرائيل للمستوطنين.
بمعنى أنه بات هنا التقاء مصالح بين الحريديم والمؤسسة الإسرائيلية بأذرعها المختلفة، فالحريديم يسعون للانفصال عن المجتمع العلماني التحرري، في حين أن المؤسسة التي لها مصلحة أيضا في هذا الانفصال الذي يقلل من الاحتكاكات المستقبلية مع العلمانيين، تسعى أيضا إلى تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس المحتلة من خلال الحريديم، الذين نسبة تكاثرهم تضاهي نسبة تكاثر العرب.
وعامل التكاثر هذا، دفع المؤسسة للتكفير أيضا في استخدامه ضد الفلسطينيين في إسرائيل، ونقدم هنا ثلاثة نماذج، اثنان في مدينتي نتسيرت عيليت المجاورة لمدينة الناصرة، كبرى المدن العربية، وعكا الفلسطينية الساحلية، فرئيسا بلديتي هاتين المدينتين أعلنا صراحة نيتهما بناء أحياء خاصة بالحريديم في المدينتين لمواجهة تكاثر العرب فيهما.
أما النموذج الثالث فهو ما أعلنه وزير الإسكان من حزب "شاس" أريئيل أتياس، الذي قال مؤخرا، إنه "قلق من انتشار" الفلسطينيين في منطقة وادي عارة، المحاذية لشمال الضفة الغربية، "وحذر" من أن السكوت على هذا الانتشار سيُفقد إسرائيل السيطرة على منطقة الجليل، الشمالية ذات الأغلبية الفلسطينية، وأعلن عن مساعيه لإقامة مستوطنة خاصة بـ "الحريديم" في وادي عارة، لزرع الاستيطان اليهودي في تلك المنطقة.

أسباب أخرى

بطبيعة الحال فهناك أسباب أخرى للتحولات السياسية بين الحريديم، نذكر منها، سعي الحريديم إلى مسايرة الأجواء العامة في المؤسسة الحاكمة، وأيضا في الشارع الإسرائيلي ككل، إذ أن مسايرة كهذه وتوافق سياسي كهذا، من شأنه أن يخفف من الأجواء المتحفظة منهم، وكانت تمقتهم على مدى سنوات، وتساعد أيضا على تسيير شؤونهم دون عقبات.
فهنا نذكر أنه في سنوات التسعين خاصة، وحتى السنوات الأولى من سنوات الألفين انتشرت أجواء سياسية تمقت الطابع الابتزازي لأحزاب الحريديم، التي كانت "تحلب" الخزينة العامة بميزانيات ضخمة، وقد تفجرت الكثير من الأزمات السياسية، التي عرقلت عمل حكومات، وحتى سرّعت من أجل حكومات عديدة، بسبب عدم تجاوبها مع مطالب الحريديم المالية المبالغ بها.
كذلك فإن الأجواء السياسية العامة تتغلغل في بعض هذه الأحزاب، نذكر على وجه الخصوص حزب "شاس" لكونه أكبر أحزاب الحريديم، فهذا الحزب الذي يرتكز على أصوات جمهور من خارج مجتمع الحريديم، من اليهود الشرقيين، عليه أيضا أن يتقرب لهذا الجمهور الذي تطغى عليه ميول يمينية.
إلى ذلك فإن حركة "شاس" تواجه صراعا داخليا خفيا لخلافة الزعامة الروحية، خاصة وأن الزعيم الروحي للحركة عوفاديا يوسيف اجتاز منذ سنوات عامه الثمانين، ووضعه الصحي ليس مستقرا، واغلب الظن أن وريثه هو نجله الأكبر، المعروف بميوله ومواقفه اليمينية.
كذلك فعلى مستوى الزعامة السياسية، فإن الزعيم السياسي السابق للحركة، آرييه درعي، الذي نجح بجاذبيته بين جمهور اليهود الشرقيين، ودهائه السياسي، أن يوصل الحركة إلى انجازات سياسية غير مسبوقة ولم تتكرر من بعده، فقد أنهى في الآونة الأخيرة فترة السنوات العشر، التي حُظر عليه فيها خوض المعترك السياسي بعد إدانته وحبسه لسنوات بتهم الفساد وتلقى الرشاوى.
فعودة درعي إلى الساحة السياسية، إن كان لحركة "شاس"، أو في إطار حركة جديدة يقيمها، تهدد شخص الزعيم السياسي لحركة "شاس" حاليا، الوزير إيلي يشاي، الذي على الرغم من تربعه على هذا العرش منذ حوالي عشر سنوات، إلا أنه لم يصل إلى مستوى الشخصية الجذابة سياسيا في الحركة، ومنصبه مستمدا من قرار الزعيم الروحي للحركة.

الأزمة مع الحريديم حتمية

المشهد الحاصل الآن مع الحريديم والعلمانيين في إسرائيل بالإمكان تعريفه على أنه اتفاق من الطرفين على الحفاظ على الوضع القائم، خاصة وأن جمهور الحريديم الذين لا يعترفون بإسرائيل يتركزون في القدس المحتلة، وباتوا يشكلون نسبة ضئيلة من مجمل الحريديم في البلاد، والنسب التقديرية بشأنهم تختلف، وتتراوح ما بين 5% إلى 10% من الحريديم.
ولكن على المستوى الاستراتيجي وبعيد المدى، فإن المشهد الحاصل ليس بالضرورة هو المشهد الذي سيكون بعد عشرين عاما من الآن، وهذا لعدة أسباب.
فجمهور الحريديم الذي يشكل حاليا حوالي 14% من مجمل الجمهور اليهودي في البلاد، قد تصل نسبته بعد حوالي عشرين عاما إلى 25% وحتى أكثر بقليل، وهذه المعطيات التي كانت تقديرية حتى وقت قريب، باتت اليوم مدعومة بتقارير رسمية، ففي الآونة الأخيرة صدر تقرير عن المؤسسة العسكرية، يبدي القلق من تراجع نسب المجندين في الجيش الإسرائيلي إلزاميا، وهذا لأن نسبة الشبان الحريديم من مجمل اليهود أبناء 18 عاما، الذين يسري عليهم قانون التجنيد الإلزامي سترتفع بعد عشر سنوات إلى نسبة 25%.
وهؤلاء لا يخدمون في الجيش بشكل عام، وكل محاولات دمجهم في الجيش باءت بالفشل، باستثناء أعداد ضئيلة، ليس من الواضح بعد ما إذا باتوا يشكلون نسبة مئوية من الحريديم، عدا ذلك فإن خدمة هؤلاء المحدودة هي لفترة قصيرة وفي أعمال مدنية وليست قتالية بتنوعاتها المختلفة.
وهذا ما يقود إلى جعلهم عبئا عسكريا وأمنيا على المجتمع الإسرائيلي، وهذا أحد الملفات الساخنة المطروحة باستمرار على أجندة المؤسسة الإسرائيلية بفروعها المختلفة.
ولكن اعتمادا على نمط حياة هؤلاء الحريديم ومعتقداتهم الدينية المتشددة، فمن الصعب تخيل رؤيتهم في مرحلة ما يندمجون في جيش الاحتلال بكل ما من كلمة اندماج من معنى.
الشق الثاني لنتائج تكاثر هؤلاء الحريديم مرتبط مباشرة باندماجهم في سوق العمل، فكل الجهود والمحاولات لرفع نسبة مشاركتهم في سوق العمل، ولترتفع عن نسبة 40% لم تنجح، وهذا أيضا مرتبط بنمط الحياة، فهذا جمهور اعتاد على تلقي المخصصات والانشغال في الدراسة الدينية.
أضف إلى هذا، أن مشاركة هؤلاء في سوق العمل ستبقى محدودة، فهم جمهور له منهاج دراسي مستقل، بعيد كل البعد عن المواضيع العلمية وكل ما هو مرتبط بتطور العصر، حصة الأسد الضخمة من مواضيعهم الدراسية تتركز في الجانب الديني واللغة العبرية، والرياضيات بمستوى ما، واللغات بما يخدم جمهورهم.
بمعنى أنه حتى لو انخرط هؤلاء لاحقا في سوق العمل فإن فروع انخراطهم تبقى محدودة جدا، وعلى الأغلب في قطاع التجارة وإنتاج ما يُستهلك في مجتمعاتهم المنغلقة من أغذية وملبوسات خاصة، وما إلى ذلك.

ولهذا فإنهم سيستمرون لسنوات طويلة في كونهم عبئا اقتصاديا على الخزينة العامة، وكلما ازداد عددهم زاد عبئهم، وهذا بحد ذاته سيقود أيضا في مرحلة ما إلى صدام.
وهذا الصدام شبه حتمي في داخل المجتمع الإسرائيلي، إن كان على مستوى الاقتصادي والعسكري، أو الأهم، على طبيعة الحياة اليومية للمجتمع، سنراه على المدى البعيد، وسيكون له انعكاسات كبيرة أيضا على مختلف المستويات.

تحضير للطباعة
أرسل لصديق -
صحيفة الغد الأردنية
المشهد الإسرائيلي
الحوار المتمدن
مؤسسة توفيق زيّاد
للثقافة الوطنية والإبداع

الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
الفنان كارم مطر