رحل الشاعر الكبير محمود درويش عن هذه الحياة مبكرا، ولكن كما قال الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى، فان محمود درويش برحيله هذا لم يترجل فرسه العربية الاصيلة، وانما امتطى فرس الخلود والبقاء.
ان محمود درويش قمة في تاريخ الادب العربي، فقد كرس شعره لخدمة القضية الفلسطينية، قضية شعبه والمأساة التي تعرض لها هذا الشعب. وهو في شعره يتحدّث عن صراع على مستوى الجمال، وبالتالي كان مناضلا على مستوى جماليات الشعر العربي من خلال روح ثائرة متمردة مليئة بالامل والتفاؤل.. هذه الروح لم تخمد ابدا منذ ان استيقظت حتى رحيله، رغم انها تعرضت لازمات وصدمات متعددة، فهي لم تمت ولم تستسلم واستفادت قوة جديدة من كل التجارب القاسية التي مرت بها. ومن هنا، فان محمود درويش يحتل مكانة مهمة وبارزة في الشعر المعاصر تتجلى في تجربته المتدفقة التي ترخي بظلالها الانسانية على كل عناصره وابعاده.
ان محمود درويش هو ابن مرحلة الامل والتفاؤل والتمرد والثورة.. بل ان محمود درويش هو واحد من اجمل واصدق الاصوات الفنية المعبرة عن هذه المرحلة الجديدة في الشعر العربي. فشعره ليس بسيطا وشعبيا، فهو لا يمارس الخطابة حيث إنه خلّص القصيدة من المباشرة وجعلها عالما مليئا بالخير. وفي قصائده تتجمع جماليات الشعر العالمي من خلال بقائه شاعرا عربيا فلسطينيا يعتني بلغته العربية أشد اعتناء. فهو ليس حالة بسيطة في الشعر العالمي، فمحمود درويش سوف تجده من اكثر الشعراء حضورا في العالم. انه خلاصة نقيّة لمرحلة التفاؤل الثوري، فمنذ ان ارتفع صوت محمود درويش وهو يحلق في عالم الأمل والتفاؤل الثوري، لا يتردى ابدا الى قاع اليأس القاتم، ذلك لانه يرى بقلبه الكبير حقيقة المأساة، فلا ينهار فيستسلم، او يغالي فيستعظم. لقد كان صلبا في الشدائد، شفافا في احتجاجاته، هادئ النبرة في انفعالاته.
لم تكن صوره الشعرية انشائية، بل تعتمد على الكلمة المناسبة للمنبر الذي يختاره، فقد كان حكيما في اختيار كلمته حيث يبرز لديه بوضوح الثراء اللغوي بجذوره واشتقاقاته، بالدرجة التي لا تشعر القارئ بالافتعال او المعاناة؛ وقد استطاع ببراعة ان يوازن فنيا ووجدانيا بين الموسيقى الشعرية داخليا وخارجيا، ومرجع ذلك الى موهبته الفطرية، والى استيعابه للجرس في الشعر العربي التقليدي، ناهيك عن ثوريته الحالمة، فهو رومانسي في قصائد تقل فيها المباشرة، وتثر بالعذوبة والاحلام.
ويمتاز محمود درويش بقدرته الفنية على الايحاء، بعدما تخلّى عن التعبير الصريح مع انه لا يوغل في الغموض، لحرصه على الالتصاق بافهام الجماهير التي يكتب لها
وهكذا يرحل محمود درويش تاركا فراغا كبيرا في دنيا الشعر العربي والعالمي بعد ان تبوأ بجدارة تلك المكانة المرموقة في عالم الشعر التي يقر ويشهد بها القاصي والداني دون مواربة، فهو شاعر القضية والشعب والانسانية الذي سيبقى خالدا في ذاكرة وقلوب شعبه ومحبيه ومريديه لا سيما وانه قد ترك تراثا غزيرا من ابداعاته الفريدة الراقية في عالم الشعر والادب.
فله الرحمة، ولأهله وذويه وشعبه حسن العزاء وطول البقاء، وليكن ذكره طيبا عابقا كزهر اللوز في كل زمان ومكان.
(كفر ياسيف)
د. منير توما *
الخميس 21/8/2008