كما في كلّ سنة، في فصل الصّيف، وفي شهر آب تحديدًا، أختار عطلتي الصّيفيّة في تلك المنطقة، منطقة شبه جزيرة سيناء المصريّة، التي كنت قد أدمنت على زيارتها وذلك لرؤية جمالها والتمتّع بطبيعتها البحريّة وشاطئها الجذّاب والخلاب، والسّباحة في بحرها وبين أسماكها المختلفة الألوان والمتناسقة كتناسق قوس قزح وبين شُعبها المرجانيّة  حيث يحلو الجلوس مع أهلها الطّيّبين وتناول أطراف الحديث معهم.
وكما في كلّ سنة أخذت معي كتابًا للقراءة مع بعض المقالات التي لم أقرأها بعد، لضيق الوقت، من صحيفة الاتّحاد وصحف أخرى لأقرأها هناك لتكون غذاءً لروحي العطشى للمطالعة ولرائحة الورق العطِرة. وقد اخترت لهذه السّنة أن يكون كتاب عطلتي السّنويّة ذاكرة للنّسيان لشاعرنا الكبير محمود درويش، من إصدار دار النّورس الفلسطينيّة للصّحافة والتّوزيع، عن دار الثّقافة في منظّمة التّحرير الفلسطينيّة. وبعد أن قطعتُ شوطًا في قراءة ذاكرته وإذ بي أتلقى رسالة عبر هاتفي من ابنتي صابرين تُعلِمُني فيها أنّ العاشق من فلسطين وصاحب ذاكرة للنّسيان قد رحل عن وطننا ودخل في وجوده الرّوحي السّرمديّ الذي لا نستطيع دخوله طالما أنّ وجودنا الجسماني قائم، رحَلَ بعد أن خجلَ من دمعةِ أمِّه وبعد أن كتب وعدَه الذي لم يصْدُق به، وتصوّروا لو صدق! "وحياتي فضيحة شعري، وشعري فضيحة حياتي. رفَّ على بالي مطلع قادم من سطوح بيوت الجيران: يطيرُ الحمامُ. يحُطُّ الحمامُ. يطيرُ الحمامُ. يطيرُ الحمامُ. أعجبني أن أموتَ في الأربعين، لا قبل، ولا بعد..(ذاكرة للنّسيان صفحة 142).
وتذكّرت حينها قول الشّاعر:

تودَّع من حبيبكَ كلّ يومٍ       فلا تدري الوداعَ متى يكونُ

 لقد تركنا في شهر آب هذا الشّهر الذي كان قد أعلن أنّه يكرهه ليس فقط لأنّه
يُبشّر بفصل الخريف، بل لأنّ قصف بيروت والصّمت العربي الرّسمي والهِمّة
الإذاعيّة العربيّة ومحاصرة الجيش الإسرائيلي لعاصمة الثّقافة وللأبطال دام طيلة شهر آب حيث صمدوا ولم يهنوا ولم يحزنوا وبقَوا الأعلَون لأنّ روح الإيمان فيهم بعدالة قضيّتهم وصدقها وشرعيّتها تعلو فوق كلّ الأصوات وتُخمدها وهي في رحمِ جُحُورها.
"آب أقسى الشّهور".
وكأنّه تنبّأ لساعته في آب. وأصبحت كآبتنا في آب.
رحل بعد أن أتى حيّزه المُقدّس، قبل سنة ويزيد، كَرْمِلَه، كَرْمِلنا وأتى كَرْمِلَنا، كَرْمِلَهُ وكلّنا في هذا الحيّز الصّغير المُقدّس الإلهي، كرملُ.."لأنّ جبل الكَرْمل المُنبثِق عن صعودِ البَحرِ إلى السّماءِ وعن هبوطِ السّماءِ إلى البَحرِ يرسم مُعجِزةً: عُنقًا مطوَّقة بقُبلةٍ مجبولةٍ من حجرٍ وشجرٍ، أعني حيفا، تتقدّمها شهوةٌ حارّةٌ في شكل منقار ملوّن يشهد على أنّ في مقدور موجة جامحة أن تتحجَّرَ من الأزل إلى الأبد. لأنّ الأمر كذلك، فإنّ حيفا تشبه الحمامة. وكلّ حمامةٍ تُشبه حيفا" (ذاكرة للنّسيان صفحة 132)..    
أتى كَرْمِلَهُ/كَرْمِلَنا كُرْمَالَنا، أتى ليُوَدّع أهله في الوطن ويتفقّد حالهم وكأنّه شعر أنّ ساعته التي طالما تحدّث عنها وعن مجيئها قد حانت. وقد أَحْسَنَ أهلُ الوطنِ وِفادةَ كريم قومهم وكبيره فأكرموه بحضورهم المُلتهب شوقًا وشغفًا ورغبة بسماع صوته ورؤيته ولقائه بعد غياب، ابنهم البارّ، الذي دام عشرات السّنين. أتى ليُطمئنهم أنّه وإن رحل سيعود مع النّدى النّديّ كلّ صباح ومع كلّ مطر ناعم في خريف بعيد وأنّه سيتجدّد في أوراق الزّيتون المُقدّسة وأنّ المارّين مارّون ولن يُقيموا بيننا بعد أن ينصرفوا وأنّه ميّت مُتقاعد يقضي إجازته القصيرة في الحياة وأنّه إن جاع سيأكل لحم مُغتصبِهِ. وسيُحلّق فوق سمائنا مع عصافير الجليل ويدخل في قلوب النّاس جميعهم فهناك سيجد جنسيّته وما همّ إن أسقطوا عنه جواز السّفر ما دامت جنسِيَّته في قلوبهم، فهو الآن حرٌّ وحرٌّ وحرُّ وسنقطف لهُ أحلى أزهار الكرمل والجليل من شقائق النّعمان ما شاءَ، فهي له وأزهرت لعينيْهِ ومن أجلهِ فجمالها يفوق جمال البنفسج. لأنّ البنفسج زهر المُحبَطين. ما أجمل شقائق النّعمان وما أجمل السّنابل السّبع.
أتى ليرى الحمامة التي طالما حاول كمال الفلسطيني اللاجئ في مُخيّم صور، لقاءها حيث أحبّ الجلوس على صخرة في شاطئها يراقُب الحمامة من بعيد، حيث انطلق وعاد جثّة تقذفها أمواج البحر بعد أن حاصرته الزّوارق البحريّة الحربيّة واعتقله جنود البحريّة بعد أن صوّبوا رصاص بنادقهم وحقدهم نحوه من جهات البحر كلّها، اعتقلوه واستجْوَبوه وصلبوه على خشب زورقِه بعد أن دقّوا أطرافه بمساميرهم، تمامًا كما يسجنون أهل الوطن في وطنهم وفي سجون مبنيّة على أرضهم.
وحين سألوه: "هل معك أسلحة للقتل؟
أجاب: معي حنين يقتلني
سألوه: من أين أنت؟
أجاب: من الحمامة
سألوه: إلى أين تمضي؟
أجاب: إلى الحمامة
سألوه: ما هي هذه الحمامة؟
أجاب: حيفا
سألوه: هل أنت فدائيّ؟
أجاب: لا
سألوه: وماذا تُريد؟
أجاب: أريد أن أَدْفِنَ جُثّتي بيديّ تحت طوق الحمامة".(ذاكرة للنّسيان صفحة 137)..    
تُرى هل ستبقى الحمامة مطوّقة! هل ستبقى في قفصهم! وهل ستبقى في بيتها
الذي لا سلطة لها عليه؟ هل سيبقى بابُ القفصِ مُغلقًا؟ أم سيأتي الأمير لفكّ الأسر، ليكون النّاصر صلاح الدّين الثّاني، ويحرّرها ويكون مصير هذه الحمامة كمصير الحمامة المُطوَّقة كما جاء في قصيدة الشّاعر العراقي المَنازيّ البندبيجي الذي اجتاز بسوق باب الطّاق في بغداد، حيث تُباع هُناك الطّيور فسمع حمامة تُلَحِّنُ في قفصٍ فاشتراها بعد أن سمعها تبكي مصيرها:

ناحتْ حمامةٌ ببابِ الطّاقِ                  فَجَرَتْ سوابقُ دمعي المُهراقِ
حَنَّتْ إلى ارضِ الحِجازِ بِحُرْقةٍ             تُشْجي فؤادَ الهائمِ المُشتاقِ

فَشَرَيْتُها لَمَّا سمعتُ حَنينهَا                وَعَلَى الحمامةِ عُدْتُ بالإطلاقِ
بي ما بِكِ يا حمامةُ فاسألي                مَنْ فَكَّ أسْركِ أنْ يَحِلَّ وِثاقي

تُرى من يعود على الحمامة بالإطلاق؟
لقد كانت لي ومنذ نعومة أظافري، عدّة لقاءات غير شخصيّة، مع كريم وكبير قومي، في بيت عمي أبي عائدة، داود تركي، والذي أصدر له ديوان شعره "عاشق من فلسطين" في أيّار عام  1966، حين كان صاحب مكتبة النّور التي تقع عند مفرق نزلة صهيون وشارع الخوري، وقد طُبع في مطبعة واوفست الحكيم–النّاصِرة.
ولقاء آخر في قراءتي لقصيدته "برقيّة من السّجن" في إحدى احتفالاتنا، حين كنت عُضوًا في الشّبيبة الشّيوعيّة، وأتذكّر تلك الأبيات:

من آخر السّجن، طارت كفّ أشعاري
تشُدُّ أيْديَكُم ريحًا.. على نارِ
أنا هُنا ووراء السّور، أشجاري
تُطَوِّعُ الجبلَ المغرورَ.. أشجاري

في حجمِ مجدِكُم نعلي، وقيدُ يدي
في طول عمركمُ المجدول بالعارِ

في اليوم، أَكْبُرُ عامًا في هوى وطني
فعانقوني عناقَ الرّيحِ للنّارِ

والتقيت به في أمسية نظّمها الطّلاب العرب في جامعة كومنسكي في براتيسلافا عاصمة جمهوريّة سلوفاكيا بعد أن سقطت بيروت و:

سقط القناع عن القناع عن القناع
سقط القناع

حيث دعا في قصيدته:

حاصر حصارك..لا مفرّ.
سقطت ذراعك فالتقطها
واضرب عدوّك..لا مفرُّ
وسقطْتُ قربك، فالتقطني
واضرب عدوّك بي، فأنت الآن حرّ
حرّ
وحرّ.
عرب أطاعوا رومهم
عرب وباعوا روحهم
عرب..وضاعوا
سقط القناع
سقط القناع

لقد غاب عنّا عاشق من فلسطين، غاب ليلتقي هناك بكمال.
تُرى هل تُشبه الجنّة الأرض أم أنّها مرآة للأرض.
هل الجنّة مثوى الصّالحين والصّابرين والصّامدين والمُناضلين ومُعذّبي الأرض؟ هل سيجدون في الجنّة الرّاحة الأبديّة، حيث لا وجع ولا تنهيدة ولا ألم.
تُرى هل سيولد محمودنا من جديد في قرية البروة هناك كما ولِد هُنا. هل في الجنّة بروة أخرى؟ هل جليل الجنّة كجليل فلسطين؟ وهل كرمل فلسطين ككرمل الجنّة؟ أم أنّ هناك، هناك، وهنا، هنا أم "ولا هناك سِوى هُنا!
وهل ستبدأ حيفا من هناك لتطال حيفا هنا؟ خاصّة بعد أن أَنْشَدَ نشيد أناشيده:

"ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد
لأحمد المنسيّ بين فراشتين
مضت الغيوم
وخبّأتني
ورمت معاطفها الجبال
وشرّدتني

تُرى هل بروة الجنّة مُحرّرة أم أنّ هناك أيضًا، احتلالٌ.
تُرى هل أصبح أحمد، هناك، سُلّم الكرمل، أم أنّ حيفا من هناك قد بدأت.
تُرى هل سيربطُ زيوس، كبيرُ الآلهة، السارقَ، برومثيوس، بحبلٍ ويُعَلِّقه على صخرةٍ ويرسلُ إليه عقاب الجوّ ليأكُل كبده، مرّة أخرى إن سرق..  
ننتظر عودة المحمود من هناك محمولاً على طائر الرّخّ ليُعطِينا أجوبة شافية كاملة..
ويبعثُ فينا الأمل من جديد.
وليكُن أملُنا محمودًا.
وليكُن محمودٌ أَمَلَنا.
وليكُن حبّنا لحيفا المجازيّة والحقيقيّة كما كان حبّ شاعرنا محمود درويش لها فيما قال:
أُحِبُّ البِحارَ التي سأحبُّ، أُحِبُّ الحُقُولَ التي سأُحِبُّ، ولكنَّ قطرةَ ماءٍ بمنقارِ
قُبَّرةٍ في حجارة حيفا تُعادِلُ كُلَّ البحار.

* حيفا