مات محمود درويش، قمر فلسطين وعريس الوطن وفارس الفرسان وسيد الكلمة النظيفة المضيئة والموقف الوطني الجذري المسؤول، ورمز القصيدة الفلسطينية المقاومة وعملاقها، وشاعر الحداثة والاصالة، الذي ترجّل عن صهوة الشعر والادب قبل ان يكتمل الحلم الكبير.
مضى عاشق الارض واللوز والخروب والحنّون والنرجس والزعتر والفراشات، المسكون بوطنه وتراب وطنه وبروته، وامه، وقهوة امه، ورائد الشعر الوطني المقاوم، وشعر الحب الصافي الرقيق الذي حوّل الجرح الفلسطيني النازف الى قصائد ثورية فلسطينية لاهبة، ولخص المأساة والمعاناة والتراجيديا الفلسطينية، وقضايا الحرية والانعتاق والعدالة.
مضى محمود درويش لينضم الى قافلة وموكب شهداء الحرية والقلم الفلسطيني المقاتل: ابراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي، عبد الرحيم محمود، معين بسيسو، غسان كنفاني، كمال ناصر، راشد حسين، ماجد ابو شرار، فدوى طوقان، ادوارد سعيد، ابراهيم ابو لغد، هشام شرابي، اميل توما، اميل حبيبي، صليبا خميس، محمد القيسي، نواف عبد حسن، شكيب جهشان، محمد حمزة غنايم، والقائمة طويلة جدا.
محمود درويش وجه ثقافي لامع في حركة الشعر الجديد، عمّدته ربة الشعر في نهر الابداع والخلود، وهو ينتمي الى جيل الريادة، واستطاع ان يؤنسن القضية الفلسطينية، انه شاعر كبير وفذ وعملاق، محليا وفلسطينيا وعربيا وعالميا، شاعر قضية كبيرة وعادلة، كتب وصاغ تاريخنا الفلسطيني النضالي بحروف من نور، ونقل الشعر العربي والفلسطيني من المحلية الى العالمية، وكذلك حالة استثنائية وظاهرة شعرية فريدة، وموته استثنائي، ولذلك احدثت وفاته زلزالا قويا في الارض العربية والفلسطينية والعالم.
ومحمود درويش هو الفلسطيني المعبّأ بالقدرة الهائلة على التفجّر ضد كل شيء، حتى ضد، "الحب القاسي" الذي كتب "سجل انا عربي" في عروس الكرمل، حيفا وشرب رومانسيته حتى الثمالة والنخاع، ليصعد على "الظل العالي" خارجا من الخارج كله، الى القصيدة الفلسطينية، الفنية الجمالية الجديدة، رافضا علانية بطولة الشاعر الفلسطيني الذي ليس له سوى "بطولة فلسطين" في الوقت الذي يسترخي فيه شعره ويكاد يتلاشى. ويمكن إجمال خصائص ومميزات شعر محمود درويش في قدرته الفائقة والفذة على اختيار المفردات الموحية خارج اطار القاموس الشعري المألوف والتركيز على الحدث وحده، في شكل لقطات مرئية خاطفة، والانفعال الداخلي العميق النابع من تجارب العصر، من خلال رؤية انسانية شديدة الحس، وتوظيف الموروث الديني والاسطورة.
فيا محمود، يا سيد الحاضر والمسقبل: لماذا هذا الرحيل المبكر والسريع والمفاجئ؟! ألم تستطع ان تتأخر وتتحايل على هذا الموت القاسي لتكتب وتبدع قصائد الحب والحياة والامل، وقصيدة الانتصار الفلسطيني مثلما كتبت ووضعت وثيقة استقلال الدولة الفلسطينية؟!
نعم يا محمود، ايها الراحل الباقي، ستشتاق اليك تلال البروة واسوار عكا ورمال حيفا وصنوبر الكرمل وزعتره وقندوله، ستشتاق اليك فراشات الجليل وحجل الجرمق وبيارات البرتقال في يافا، ومقاهي رام الله وازقة القدس وشوارع بيروت التي كنت عاشقها وبقيت فيها، ايام الحصار الهمجي، انت وقلة نادرة من الكتاب والشعراء والمبدعين تدافعون معا عن جنونها.
فوداعا يا محمود، ايها الشاعر المضرّج بالزنازين والشعر وستظل كزيتون وسنديان الجليل لا تموت.
(مصمص)
شاكر فريد حسن *
الأثنين 25/8/2008