في التاسعِ مِن آب 2008 سجَّلَ التاريخ: "اليوم انتصرَ محمود درويش على الموت". مبروك لكَ أيُّها المنتصِر في معركتِكَ الأخيرة. وحظاً أوفر لكَ يا موت، ولتذهب للبحثِ عن فريسةٍ أخرى، فمحمود درويش صارَ مَا أرادَ أنْ يكون: فكرةً وطائراً وكرمةً.
انتصرَ محمود عليكَ يا موت وهزَمْتَنا نحن. هنيئاً لكَ على عنادِكَ وقسوتِك. فعرَفْتَ كيفَ تنتقم، فأصعَبُ الموت هو أنْ نموتَ أحياءً. قتَلْتَنا يا موت!
لا أعرِفُ مِن أينَ أبدأ وكيف، فالكلمات حَرون والقلبُ يفيضُ بالحُرقة والألَم. ولا أجد إلاّ كلماتك أتَّكِئُ عليها لتُساعِدَني على النهوضِ مِن قاعِ الحُزن. وأقرأ: "على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة". أطفو قليلاً ثمَّ أغرقُ في بحرٍ من الدموع لا نهاية له. أحدِّقُ في صورِك فينتفضُ قلبي فجأة وكأنني أتلقَّى خبرَ رحيلِكَ للمرّة الأولى وأصرخ: كلاّ، لا يمكن أنْ يكونَ الذي كان، لا يمكن أنْ ينطفئَ بدرُ الزّمان.
حينَ رنّ الهاتف في البيت في صباح التاسع من آب لنتلقّى الخبر الفاجع من بيت العم زكي: "محمود وضعه صعب جداً، وهناك خطر على حياته"، كنتُ لا أزال أتقلّب في السرير والنعاس يغلب عينيّ. طارَ النومُ من جفوني، شعرتُ بانقباضٍ غريبٍ في قلبي، وقفزتُ من السرير والأسئلة تتزاحمُ في رأسي: كيف يمكن ذلك، أَلَم تنجح العملية؟ ماذا أصابه؟ ما وضعه الصحي الآن؟ ولا جواب سوى الصَّدى.
أُحاولُ أن أستَرجِعَ إرهاصات حُبي لكَ ولقائي الأوّل بكَ. وأحاول أنْ أتذكَّرَ القصيدةَ الأولى. فلا أستطيع. هل سَكَنْتَني منذُ الأزَل وسكنْتُكَ إلى الأبَد؟ يبدو أنّ ما لكَ مِن حُبٍّ بينَ ضلوعي لم يكن بحاجَة إلى بداية، إنّما وُلدَ معي وما القصيدة الأولى سوى الغطاء الذي تكشَّفَ عن هذا الحب. أُحبُّكَ وأُحِبُّ الشِّعر، وفي كُلِّ مرَّة أؤكِّدُ حُبي للشِّعر، أعودُ وأستدرك: أحبُّ كُلَّ الشِّعر الجميل ولكنْ أحبُّ شاعِرَيْن اثنين وأشربُ شِعرَهُما كعصيرِ بُرتقالة.
أنظُرُ حَولي وأستدرِكُ أنّكَ لن تكونَ بعد اليوم، وأرى أمامي وُجوهاً تضحكُ وهيَ لا تستحقُّ العيشَ ساعة، فأنظرُ إلى السّماء وأتساءَل: هل هذا هو العَدْل؟ هل هذا امتحان؟ ما أصعبه وما أقساه!
حاوَلتُ أن أكتبَ ولو سطراً واحداً، علّ الموتَ يبتعدُ ساعةً، كما كان يبتعدُ الحصارُ متراً كلّما كتبتَ سَطْراً. أكتبُ وأكتبُ علّني أساعدك في معركتِكَ الأخيرة، علّني أستعيدُ شيئاً مِنك. لكنَّ الحياة قاسية، والحكم قاسٍ، وشاعَ الخبرُ الأليم، وسقط القلبُ مِنِّي ولم أجد عندي سوى دمع عيني.
في كتابكَ الأخير قُلتَ: "سنصيرُ شعباً حينَ نحترمُ الصَّوَاب، وحينَ نحترمُ الغَلَط!!". وكيفَ لنا يا محمود درويش أنْ نحتمِلَ غلطَ رحيلِكَ عنّا وأنتَ نجمتنا وشمعتنا وحُلمنا وأملنا؟ كيف، وأنتَ الفكرة والأسطورة؟ هل يمكنُ للفكرةِ أنْ تموت؟ هل يمكنُ للأسطورةِ أنْ تزول؟ قُم أيّها المتماوت، قُمْ، ولا تتكاسل، فالوقتُ يَمُر.. ولا شيء يردُّ سوى الصَّدى. ولا شيء. لاشيء...
الرامة
عدي القاسم
الأربعاء 27/8/2008