نظرة سريعة في إيقاع القصيدة الدرويشية



في اليوم الدراسي الذي أقامه مجمع اللغة العربية في الناصرة، السبت 4/10/2008، شاركتُ في النقاش بملاحظة فنية، تناولتُ فيها الإيقاع المدهش في شعر محمود درويش. مثّلت بأسطر ثلاثة من قصيدته الأخيرة " لاعب النرد "  تعكس عمل الدرويش الطويل المرهق في كتابة شعره، رغم انسياب هذا الشعر متدفقا في يسر النثر، بل الكلام العادي أحيانا. كانت ملاحظتي سريعة، والوقت ضيقا، حتى أن بعض الأصدقاء اتّصل بي قائلا إنه سمع شيئا ولم يسمع أشياء، ناهيك أن تشريح الإيقاع الشعري لا يمكن تقصّيه مشافهة، لا من الشارح ولا من السامع. فإلى الصديق المهاتف، وإلى كل من لم يسمع ملاحظتي المذكورة، أسوق هذه الكلمة القصيرة.

 

محمود درويش، في رأيي، هو أغنى الشعراء العرب بعد الحرب العالمية الثانية إيقاعا. السياب سبق درويش طبعا إلى التجريب والابتكار في الإيقاع ، إلا أن السياب لم يمهله الموت، ولا نعرف أي منجزات إيقاعية، وفنية أيضا، كانت هذه الموهبة الفذة ستحقق لو طال بها الأمد. الإيقاع الدرويشي، على كل حال،  في حاجة إلى دراسة طويلة متقصية، وأرجو أن يسعفني الوقت والجلد على إنجازها يوما، لأن مثل هذه الدراسة تحتاج إلى وقت طويل فعلا.

 

الأسطر الثلاثة  المذكورة من " لاعب النرد" اجتزئت على ظهر الدعوة إلى اليوم الدراسي،  فدعونا ننظر في رويّة وتفصيل في  إيقاع هذه الأسطر. لا أقول الوزن والقافية، في هذا السياق، لأن الشعر الحديث تجاوز منذ زمن بعيد العروض الخليلي السيمتري إلى مبان إيقاعية متباينة، بحيث يمكن القول إن لكل قصيدة حديثة جيدة مبنى إيقاعيا مختلفا عن القصائد الأخرى حتى في المجموعة ذاتها. هذا هوالمقتبَس المذكور من " لاعب النرد " :

 

هكذا تولد الكلماتُ. أُدرِّبُ قلبي
على الحبّ كي يَسَعَ الورد والشوكَ...
صوفيَّةٌ مفرداتي. وحسيَّةٌ رغباتي
                      [ عن "القدس العربي" في 3/7/2008، بنفس الترتيب والتشكيل]

 

في النظرة الأولى يبدو المقتبس نثرا، دونما وزن، كما في" قصيدة النثر"، الشكل الإيقاعي الشائع اليوم، ولا يظن غير ذلك إلا من كانت له دراية جيدة بأوزان الشعر. هكذا تخفّى هذا المقطع الشعري في ثياب النثر، بحيث يمكن أن "يخدع" كثيرين، كثيرين جدا، وفي ذلك دلالة على حذق الإيقاع ومراوغته، لا على جهل القارئ بالشعر، ذلك أن قارئ الشعر ليس مطالبا، عادة، بالإلمام بدقائق العروض. ثم إن المقطع يخلو من القافية ، ما يرجّح اعتباره نثرا في الوهلة الأولى. القصيدة كلها ، على كل حال، تكاد تخلو من القافية، مثل كثير من القصائد الأخيرة لدرويش. السياق هنا يغري بالدخول في موقف درويش الملتبس من" قصيدة النثر"، إلا أن ذلك  يستدعي مقالة على حدة. كل ما أريد قوله، بناء على المقطع أعلاه، وعلى قصائد أخرى كثيرة من المرحلة الأخيرة، أن درويش "صالح" في هذه الصيغة بين الشعر والنثر. بكلمة أخرى: كتب الشعر الحديث بإيقاع التفعيلة المركّب، بحيث نظنه "قصيدة نثر" وما هو" بقصيدة نثر"!
إذا عدنا ثانية إلى المقطع المذكور، وقرأناه متصلا، دونما توقف، وبالتشكيل الذي حرص الشاعر على إثباته ( لا شكّ لدي أنه من عمل الشاعر نفسه )، رأينا أننا حيال مقطع موزون تماما، من البحر المتدارك:
هكذا  تولد الكلماتُ. أدرّب قلبي على الحبّ /كي يَسَعَ الوردَ والشوكَ.../ صوفيةٌ مفرداتي. وحسيَّةُ رغباتي ، والتقطيع:  ـ  ب  ـ / -  ب  -/  ب  ب  -/  ب  ب  -/  ب  ب  -/  -  ب  - / -  ب  -/  ب  ب  - / -  ب  - / -  ب  -/  -  ب  -/  -  ب  - / -  ب  - / -  ب  -/ ب  ب  - / - ( وهذا المقطع الطويل الأخير يتصل بما بعده في القصيدة إذا واصلنا القراءة).

 


 قبل مواصلة النظر في المقطع المذكور، لا بدّ من ملاحظتين هامتين:
الملاحظة الأولى أننا إذا أردنا أن نقرأ هذا المقطع الصغير أعلاه، أومقاطع أخرى  تمتد أحيانا إلى صفحة وأكثر، قراءة إيقاعية تحافظ على الوزن،   فلا بد من مواصلة القراءة دون توقف حتى آخر المقطع مهما كان طوله، وإلا فإننا حين نتوقف نخلّ بالوزن. هذا هو المبنى الإيقاعي الذي  أسماه نقاد الشعر الحديث القصيدة المدوّرة التي يتصل الإيقاع فيها من سطر إلى سطر حتى آخر المقطع، والصفحة أحيانا. كما أن الأسطر ذاتها كثيرا ما كانت تكتب "ممتلئة" على عرض الصفحة، تماما كالنثر. ولأن القارئ لا يمكنه القيام بقراءة بضعة أسطر أو صفحة كاملة " في نفَس واحد" ، فهو مضطرّ إلى التوقف، وفي ذلك  ما "يخرم" الإيقاع ويحدّ من خطابية النصّ الشعري. كما أن القافية في القصيدة المدورة من الطبيعي  أن تختفي  أو تتلاشى تماما. هذه هي التقنية التي استخدمها درويش  في المبنى الإيقاعي لقصيدة "لاعب النرد" وقصائد أخرى كثيرة غيرها، وإن كان السطر عنده لا "يمتلئ"، والتدوير لا يمتدّ مساحات واسعة، كما في القصيدة المدورة.
الملاحظة الثانية أن المقطع المذكور، والقصيدة كلها، تقوم على تفعيلة المتدارك، وهو بحر أهمله الخليل بن أحمد، إلا أن تلميذه الأخفش تداركه، كما تروي المراجع الكلاسيكية، فسمي المتدارك. يتشكّل المتدارك هذا من تكرار فاعلن ثماني مرات، أربع في كل شطر، وهذا الشكل من المتدارك ( فاعلن -  ب  -  وتنويعته ب  ب  - ) لا نجد منه في الشعر القديم إلا أبياتا معدودة  في كتب النحو والعروض، يبدو أن المؤلفين نظموها للتمثيل لا أكثر.  إهمال القدماء لهذا البحر كان، في أغلب الظن، بسبب إيقاعه الخافت الذي ينافي الخطابية العالية في القصيدة الكلاسيكية. وهذا السبب بالذات، خفوت الإيقاع الشديد، هو ما جعل البحر المذكور، أو تفعيلته ، يهيمن على إيقاع شعر التفعيلة منذ السبعينات على الأقل. المتدارك بإيقاعه الخافت، وتفعيلتيه – ب – / ب ب – ، لم يعرفه الشعر القديم، كما أسلفنا.  فالصيغة المعروفة من المتدارك في القصيدة الكلاسيكية عالية الإيقاع راقصة، بحيث يصعب اعتبارها تنويعة من المتدارك الموصوف أعلاه. تتشكل هذه الصيغة من تنويعتين لتفعيلة فاعلن هما: ب ب ـ / ـ  ـ  ، ويلاحظ أن التنويعة الثانية دخلها ما يسميه القدماء التشعيث، ما أضر بالوتد في الواقع وجعل الإيقاع مختلفا تماما عنه في المتدارك الأصلي. من هنا تسمية هذه الصيغة أحيانا الخبب، لأنها تختلف في إيقاعها عن المتدارك اختلافا بيّنا. أشهر قصيدة من هذه الصيغة، الخبب، هي قصيدة الحصري التي حظيت بعشرات المعارضات، بما في ذلك معارضة شوقي الشهيرة "مضناك جفاه مرقدهُ.." . قصيدة الحصري المذكورة، وكل معارضاتها، لا تتضمن الشكل الأصلي من فاعلن / - ب -  مطلقا، ولذا يجوز لنا في الواقع اعتبار الخبب بحرا مستقلا عن المتدارك، رغم حكم  العروضيين بأنه  متطور عنه.  فيما يلي مطلع قصيدة الحصري وتقطيعه لبيان ما ذهبنا إليه:

 

يا   ليلُ  الصبّ  متى  غدُهُ           أَقيامُ        الساعةِ        موعدُهُ   
-  - /- -/ ب ب –/ ب ب -           ب ب - /- -/ ب ب –/ ب ب –
هذا البون الإيقاعي الشاسع بين  الخبب والمتدارك جعل شعراء التفعيلة يستخدمون الخبب في أول الفترة، مضيفين إليه أحيانا تنويعة – ب ب التي لم يعرفها العروض القديم، ثم ينصرفون عنه بعدئذ تماما إلى المتدارك ، بحيث غدا هذا " الحجر المرذول" في الشعر الكلاسيكي حجر الزاوية في شعر التفعيلة في الفترة الأخيرة، وعند الدرويش بوجه خاص، وذلك بسبب إيقاعه الخافت تماما، بحيث يلتبس بالنثر غالبا في الأذن غير المدربة!
إذا عدنا إلى الأسطر الثلاثة أعلاه، وقرأناها مع الوقف والتسكين عند النقطة، كما في قراءة النثر وتجنبا لقراءة " النفَس الواحد " ، نكتشف أننا حيال وزن جديد لكل جملة بعد  النقطة على النحو التالي:

 

1) هكذا تولد الكلماتْ :  - ب - / - ب - / ب ب -  ﻩ/ ( البحر المتدارك ) .
2) أدرّبُ قلبي على الحبّ كي يسعَ الوردَ والشوكْ : ب – ب / ب - - / ب - - /
 ب - ب / ب - - / ب - - ﻩ/ وهذا هو البحر المتقارب، فعولن ثماني مرات! وللأمانة نقول إن المراوحة بين هذين البحرين، على هذا النحو، شائعة جدا في شعر التفعيلة المتأخر، وتهيمن على الإيقاع الدرويشي في مرحلته الأخيرة إلى حد بعيد، بحيث لا نغالي إذا سمينا هذا الوزن " الهجين " البحر المتدارب ( المتدارك + المتقارب) !
3) صوفيّةٌ مفرداتي : - - ب - / - ب - - / ( مستفعلن فاعلاتن)،  وهذا الوزن يسميه العروضيون البحر المجتثّ .

 

4) وحسيّةٌ رغباتي : ب - - / ب – ب / ب - - /  عودة الى المتقارب طبعا.
إلى هذه الدرجة من التعقيد الإيقاعي بلغت هذه الأسطر الثلاثة! والقارئ  يقرؤها ظانا أنها من قصيدة النثر حينا، أو يحس فيها إيقاعا غائما يصعب عليه تحديده حينا آخر، أو يتعرف هذه الإيقاعات الغنية كلها،  مستمتعا معجبا. هذه عينة من منجز الدرويش الإيقاعي، تمثل في رأينا المستوى الراقي للقصيدة الدرويشية بكل مقوماتها الفنية. ونختم بالسؤال: كيف تأتى لهذا الإيقاع المعقد أن ينساب انسياب الكلام العادي عذبا رقراقا ؟  ليس هذا الشعر سهلا ممتنعا فحسب، إنه السهل المعقد!

سليمان جبران
الجمعة 10/10/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع