كلمات أولى من تونس الخضراء.. أشياء صغيرة
محمود درويش..تمردٌ على الإيقاع المألوف!



تونس الخضراء..ليست تمامًا!

تونس الخضراء..ليست تمامًا!
لوحة مجازية تتدفق جمالا وعافية..بينها وبين التراب الجنوبي الصحراوي يسود توتر جغرافي وشيء من "سوء التفاهم".. يكاد يبلغ حدّ التقاطب والقطيعة!
"الميهاري" فندق سياحي فخم..يرتاح على شواطئ مدينة الحمامات في الشمال الشرقي لتونس..وعلى الشاطئ الجميل يمتد شريط أبيض طويل من "شبكة الياسمين"..وهي شبكة من الفنادق والمنتجعات السياحية التي تعجّ بالسياح الأجانب..
نحن في بلد عربي..فهل نحن سياح "أجانب"..ربما!
من تونس العاصمة..يتصل بي الصديق الكاتب توفيق فياض صاحب "المشوهون"  و"بيت الجنون" و"الشارع الأصفر" و"البهلول"..و"وادي الحوارث".. وينقل لي النبأ المشؤوم..
لقد نقلوا محمود إلى مستشفى يوستون في ولاية تكساس..إنه في العناية المكثفة!
وأصابني ما أصاب المتنبي..ففزعت بآمالي إلى الكذب!
قلق واضطراب وتوتر وتحسّب ممّا تخبئه الأيام بل الساعات القادمة!
ولا يستطيع الصوت القادم من بعيد أن يخفي قلقه ومخاوفه..لأن الكاتب يعاني ممّا يعانيه الشاعر..ويخشى من مصير مشابه!
والسيف  مصلت فوق رأس الشاعر والكاتب!

**

..على حد علمي..إنها المرة الثالثة..
وأخشى ما أخشاه أن تكون الأخيرة والقاضية!
أخشى أن تنتصر عبقرية الموت على عبقرية الشعر!
يدي على قلبي!

**


السبت 9-8-2008
يرن الهاتف في الغرفة..فأتوجس خيفة..وأسمع في رنينه نذير شؤم..
ومن بعيد..من تونس العاصمة..تنقل الأسلاك الباردة كلمتين حارّتين حارقتين:
 راح محمود!
لقد اقتحم الغياب الأبواب وفتحها على مصاريعها..فداهمنا واندفع بكل ما فيه من قسوة الحضور..وحطّ رحاله على القلب!
وعلى الشاشة الصغيرة لفضائية "الجزيرة"..أقرأ النبأ العاجل عن رحيل لا يشبه أي رحيل!

**


الحزن العميق يخيم على القلب..
ويسود الوجوم وجوه الأصدقاء الذين عرفوا الشاعر شخصيًا..وكان جزءًا من مرحلة الشباب..في حيفا والناصرة!

**


- يجب أن آتي إليك..أريد أن أراك..لست أدري لماذا!
وبعد ساعتين يكون "حامل حقيبة المنفى التونسي"..في بهو الاستقبال في الفندق السياحي..
حديث اللحظة وحديث الساعة..غياب الشاعر..وصديق العمر..وتنهض الذكريات..
غصّة في الحلق..وحزن لا يعرف حدودًا..
من الساعة السابعة مساء وحتى الواحدة بعد منتصف الليل..لم تتوقف البرونزية المحمولة عن حمّى المهاتفات للاستفسارات..للتأكد من مدى صحة الخبر..
يكاد يقتلها الشوق لأن يكون الخبر "لعبة" إعلامية مثيرة..وكاذبة!
بين استفسار وآخر..وبين تعزية وأخرى..يكون السهم قد انطلق..ويكون للأمير ما أراد!

**


سأرتدي ثيابًا أنيقة ونلتقي في مقهى على شاطئ البحر
"أنا جاهز له. لا أنتظره، فأنا لا أحب الانتظار. الموت مثلي لا يحب الانتظار.عقدت معه اتفاقية في قصيدة "جدارية"، وأوضحت له أنني لست متفرغًا له الآن. لديّ ما أكتبه، لديّ ما أفعله..لديّ عمل كثير. ولا دخل لك، أيها الموت، في الشعر الذي أكتبه. هذا ليس من شأنك. ولكن تعال نحدد لقاء. قل لي مسبقًا، سأستعد، سأرتدي ثيابًا أنيقة ونلتقي في مقهى على شاطئ البحر، ونشرب كأس نبيذ..وعندها خذني".
هل يخاف الأمير من الموت!؟
يتابع الشاعر الحاضر أبدًا:
" أنا لا أخاف الموت ولا أنشغل بالموت. مستعد لتقبله حين يأتي. ولكن فليكن شجاعًا ونبيلا، ولنُنهِ كل شيء بضربة واحدة. وليس بأساليب كالسرطان مرض القلب أو الإيدز. ليأخذني خطفًا وليس أن يأتي  كسارق".
يرتدي الأمير ثيابه الأنيقة..فيلتقي مع غريمه "الشجاع" في مقهى على شاطئ البحر..يشربان كأس نبيذ..وتكون  ضربة قاضية وسريعة..بالضبط كما أراد!
لقد غاب قبل ساعة..فامتلأ الفضاء حضورًا..وامتلأ جلالا وبهاء وكبرياء!

**


عندما تتمرد اللغة على صاحبها
في اليوم التالي..ينهض الصباح من نومه..
دفتر المذكرات على الطاولة..ينتظر فيض المشاعر والذكريات التي ترتبط بالشاعر..صديق العمر..
يمتطي القلم صهوة اللغة..ويتأهب للانطلاق في سمائها..
فتتمرد اللغة على صاحبها..تتحصن في قلعتها..وترفع راية التمنع والعصيان..وتأبى أن تخطو..ولو كلمة!
لقد عرف القلم كيف يعتلي صهوة الجموح والتمرد..ويخون حرارة البركان وحرقة الغياب السريالي..

**


ثم تكون هدنة مؤقتة..فيُرفع حاجز صغير بين ورق الورد وبين شلال المشاعر والكلمات والذكريات..الذي يغصّ بفيض زمني يمتد إلى نصف قرن..
يرفع القلم الراية البيضاء!

 

ردّة الفعل الأولى..
وفي دفتر الذكريات يخط سطوره الأولى..وردّة الفعل الأولى..
"إنه  أكبر من كلماتنا وأكبر من مدحنا..ولا تستطيع خيول الكلمات  وغبارها مهما بلغت..أن تلحق بالأمير الفلسطيني وصهيل جواده الأصيل..
ومهما تنافست الأقلام العاشقة في مباراتها الماراتونية الساخنة..لمعانقة هذه القامة الشعرية الشامخة..فإنها تظل صغيرة صغيرة!
 ولا تملك القدرة على الإمساك بالعاصفة وكبح جماحها الذي يملأ فضاء مترامي الأطراف..ولا شواطئ له.
وفي عصر كثرت فيه الملامح المتشابهة وعـمّ فيه الدجل الشعري الذي تقنع بالحداثة  و"الثورية" والالتزام بالقضية وتصيّد منابرها في كلّ موضع..كان هذا الصوت  صوتًا استثنائيًّا لا يشبه إلا نفسه..صفاء وبهاء ورشاقة..له نبرته البلورية المميزة..بعيدًا عن شغب القوافي الرمادية..
وغدا الرمزَ الذي فرض حضوره على خارطة الشعر العربي والإنساني والعالمي.
بعد هذا الغياب المجازي..تغيرت خارطة الشعر العربي وفقدت روحها ونبضها..وغابت من سمائها سماء الإبداع الزرقاء..ذات النكهة المتفرّدة".

**


وتتدفق موجة أخرى..
"يحق لنا أن نفخر بأننا عشنا في زمن شعري  كان رمزه واحدًا منّا..من لحمنا ودمنا وفرحنا وحلمنا وعذابنا..أطلعه تراب الجليل..
ويحق لأجيالنا الصاعدة ولأحفادنا من بعدنا أن يفاخروا ويباهوا:
 لقد عاش آباؤنا في عصر محمود درويش..
ستقول ابنتي: كان الشاعر الكبير صديقا لأبي..
كان يزورنا دائمًا..ويسهر معنا دائمًا..ويأكل معنا..ويشرب معنا..ويدردش معنا..
هذه الغرفة/المكتبة..مملكتي الخاصة..كان الشاعر من مواطنيها..وكانت "ملتقى ثقافيًا" يؤمه أصدقاء والدي من كتاب وشعراء ومثقفين ومؤرخين..وكل من ساهم في تشكيل الخارطة الأدبية والتاريخية في هذا الوطن..
سنقول لأبنائنا وأحفادنا بفخر واعتزاز..وبرأس مرفوع:
لقد أكلنا من صحن واحد..وكان بيننا عيش وملح..

**


ذكرى ليلة صارت ذكرى!
ستستل ابنتي من المكتبة دواوين أشعاره التي تحمل تواقيع إهداءاته..وعلى ديوانه "عاشق من فلسطين" ستقرأ بخط يده الأنيق الذي يشق طريقه على ورق الورد بإباء وكبرياء..إهداءه الشخصي الحميم.."إلى الصديق العزيز فتحي فوراني..ذكرى ليلة أرجو أن تصبح ذكرى..تحية وتقديرًا ومحبة..
محمود درويش..حيفا، 15-12-1967 ".

**


ففي تلك الليلة كان الحديث خنجرًا داميًا يمتد من الجرح الحزيراني النازف الذي يمزق نياط القلب..ويبعثر الدماء لتغمر خارطة الدنيا العربية..ويزعزع أركان الحلم القومي في غد مشتهى!
وتكون ذكرى ليلة صارت ذكرى!

**


ليلة قبيل الرحيل الأول!
حيفا..عروس الكرمل..والحلم الذي استحوذ على وجدان الشاعر وتغلغل في كل خليّة من كيانه..في حلّه وترحاله.. وفي إقلاعه ورسوّ سفينته في موانئ الغربة..
يقلع سندباد من بحر حيفا.. فيفلح الآفاق..ويروَض أعاصير الأبجدية..وترسو سفينته على شواطئ الجزر السحرية..وعلى شراع سفينته يطرز آيات العشق القادمة من "سفر الخروج":
"أُحِبُّ البِحارَ التي سأحبُّ، أُحِبُّ الحُقُولَ التي سأُحِبُّ، ولكنَّ قطرةَ ماءٍ بمنقارِ قُبَّرةٍ في حجارة حيفا تُعادِلُ كُلَّ البحار".
حيفا..تفاحة القلب!

**


تبهرني قامة ماياكوفسكي على منصة الإبداع
من البروة..إلى لبنان..إلى دير الأسد..إلى جديدة..إلى حيفا..
بداية الإقامة في غرفة جانبية عند سيدة فاضلة في حي عباس..ثم شقة أخرى في شارع المتنبي..وعودة أخرى إلى شارع عباس..
أوائل العام 1971..ربما
غرفة درويشية (لعاشق من فلسطين) يطيب لها أن تكون جارة  لمؤرخ القضية الفلسطينية الصديق إميل توما..ابن خلدون!
يكون الحديث ذا شجون..ويقفز من عروس الكرمل إلى الكرملين في موسكو إلى إسبانيا إلى تشيلي إلى تركيا إلى فرنسا..ثم يعود إلى قاعدته في عروس الكرمل..وعروس الشواطئ!
ماياكوفسكي ويفتشنكو ولوركا وبابلو نيرودا وناظم حكمت وأراغون..فرسان المائدة الأدبية..ومركز الحوار الثقافي..
ويتوقف الشاعر عند ماياكوفسكي..
- تبهرني قامة ماياكوفسكي على منصة الإبداع..وطريقة إلقائه للشعر..وإشهار يده اليمنى..
يقول العاشق.
ثم ينتقل الحديث إلى الهموم الشخصية والعاطفية..وينفتح القلب على مصراعيه أمام الهموم الحزبية..والعلاقات المركبّة والمتوترة مع بعض الإخوة في الخندق الواحد..والهمّ الواحد..والفكر الواحد!
وليس كل ما يُعرف يُقال!

**


وفي أي الجزر سترسو سفينة سندباد؟!
غدًا سيسافر الشاعر إلى غد ضبابي تكتنفه غابة من علامات السؤال..
أتكون هذه الليلة..آخر ليلة؟
أتكون هذه ليلة "العشاء الأخير"؟!
وفي أي الجزر سترسو سفينة سندباد؟!

**


لا تستطيع لغة العيون إلا أن تسير عارية كما خلقها ربها..
فالصبّ تفضحه عيونه..
ألمح في عينيه حزنًا عميقًا وغير عادي..
ومن خارطة الحزن..تطلّ أمارات الرحيل!
وقد يكون الرحيل رحيلا..لا لقاء بعده..إلا في الذاكرة..وطن الذكريات!
بين الانتماء اللاذع إلى الوطن الجارح والمجروح..إلى الهُوية وأوراق الزيتون وعاشق من فلسطين وبحر حيفا..وقصص العشق..
بين الخنجر الذي يغوص في الخاصرة..وبين التلميح والتلويح بالإشارات والإغراءات القادمة من وراء البحار..ومن بلاد الثلج..ومن أرض الكنانة..
ينهض القرار الصعب!

وغطت غيوم رمادية سماء العينين الخضراوين!
ومن بين السطور الضبابية  تستقرئ قارئة الفنجان  أن لا رجعة عن هذا القرار!

**


- أرجو أن لا يكون القرار نهائيًا..وأن يكون الغياب مؤقتًا..
أقول بهدوء حزين..
وخيّمت على فضاء القلب أمنية:  أن يظل الموقع والموقف توأمين سياميين..أن يظلا متعانقين..وأن يكونا حصنًا منيعًا تظل أسواره عصيًة على التصدع والاختراق!
فهل ينجو الغزال من الوقوع في شَرَك الإغراء الذي ينصبه السفراء!؟
وهل يعود العصفور النبيل إلى عشه الأصيل!؟

**


ألصمت بحر ساكن ثقيل وعميق..
وتمدّ لغة الصمت جسورها بين عيون وعيون!
فضاء الغرفة يغصّ بالصمت الثقيل!
وغطت غيوم رمادية سماء العينين الخضراوين!
ألم يطب للحزن التائه إلا أن يرسي مراسيه في هاتين العينين؟

**


السيد المسيح عليه السلام..وجندي يحلم بالزنابق البيضاء..
أخذ الضباب يتقهقر والسماء تنجلي وتطل الشمس الساطعة..
يقرر الشك أن يخلي مكانه لليقين أو شبه اليقين..
وتكون هديّة الوداع..إشارة واضحة ودلالة قاطعة إلى فك "الرباط المقدس"..وبطاقة السفر في اتجاه واحد!
"جندي يحلم بالزنابق البيضاء"..قصيدة درويشية مطرّزة بخط أنيق على لوحة فنية تشبه جلد الغزال..أبدعتها ريشة فنان من زهرة المدائن..
وهذا الصحن الخزفي التذكاري الذي تطلّ منه صورة السيد المسيح..وصلت إليه من صديقة حميمة..موشّاة بالصلاة الربّانية الصاعدة  من أعماق القلب الإنجيلي ومترجمة إلى اللغة الإنجليزية..
" أبانا الذي في السماوات – ليتقدس اسمك – ليأت ملكوتك – لتكن مشيئتك – كما في السماء كذلك على الأرض- أعطنا خبزنا كفاف يومنا – واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا – كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا – ولا تدخلنا في التجربة – لكن نجّنا من الشرير – لأنّ لك الملك والقوة والمجد – إلى أبد الآبدين، آمين".

 

أما اللوحة الأولى..فقد وجدت طريقها إلى عاشق للكلمات الدرويشية..وسرعان ما صنعت لها أجنحة..وحلّقت بعيدًا بعيدًا..لتحطّ على حائط غرفة جميلة في أعالي الجليل..ولم يبق منها شيء..لا جندي ولا حلم ولا زنبقة بيضاء!
لقد تبخّرت!
وأما الصحن الخزفي التذكاري..فما زال معلقًا على حائط غرفة في شارع المتنبي..تلك التي كانت "مجمع الخلان"..وما زال السيد معلقًا على جدران القلب والذاكرة التي تزخر بذكريات لأيام جميلة!
وتكون ليلة الوداع الأخير..قبل الرحيل الأول!

**


ويأبى "مجنون حيفا" إلا أن يطلّ من خلف الضباب حاملًا شريط الذكريات..فيرشّ الملح على الجرح النازف..ويستشرف أياما سوف تثير زوبعة تزلزل خارطة الشعر:
وليست عشيّات الحمى برواجع    إليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
كأنا خلقنا للنوى وكأنما            حرام على الأيام أن نتجمّعا

 (يتبع)
(حيفا)

فتحي فوراني
السبت 18/10/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع