في الذكرى الثامنة للثورة المصرية ثورة 25 يناير: الثورة لم تنتهِ

عبد توفيق كناعنة


للمدى البعيد..
الثورات هي عمليات للمدى البعيد تتقدم وتتراجع نتيجة لعوامل "موضوعية" من الصراعات الطبقية والاجتماعية المختلفة، ولكن ليس أقل أهمية من ذلك هنالك العوامل الذاتية وهو وجود جهاز قادر على ترجمة التفاعلات الموضوعية وعلى قيادة الجماهير الثائرة نحو أفق ثوري حقيقي يتجاوز الموجود. أعتقد ان 25 يناير هي محطة أمل وإشعاع وعلى الرغم من الاخفاق الذي حدث لهذه التجربة لاحقا الا انه من المبكر نعي التغييرات الثورية في مصر من جهة، ومن جهة أخرى أثبتت هذه الثورة ان الشعوب العربية ككل الشعوب قد تصبر وتمهل طويلا جدا ولكنها لا تهمل. ومع الخطاب والتنظيم الثوري الحقيقي فإن لا الرأسمال العسكري ولا الرأسمال الاسلاموي محصن في وجه ثورات شعبية حقيقية


"إن حقبة من الردة المضادة للثورة قد بدأت وسوف تستغرق ما لا يقل عن عشرين عاما..."
هكذا كتب لينين لأحد أصدقائه في العام 1907 قبل ان يغادر روسيا القيصرية مجددا الى منفاه في سويسرا بعد الردة التي أعقبت ثورة 1905 الروسية والتي تم القضاء عليها. وبقية التاريخ نحن نعرفه حيث بأقل من 10 سنوات جاءت الثورة الروسية على دفعتيها البرجوازية في شباط 1917 والاشتراكية في أكتوبر من ذلك العام ذاته لتحطم النظام السابق وتبني نظاما جديدا بالكامل.
اخترت أن أفتتح مقالتي هذه في الذكرى الثامنة للثورة المصرية ثورة 25 يناير ليس من باب التشبيه الميكانيكي بين الأحداث التاريخية التي تفصلها أكثر من مائة عام ولا من باب التمني. ولكن من باب الانتباه الى ان التاريخ وتطوره بصعوده وهبوطه هو عصيٌّ على التحكم المطلق به وان كنا في فترات، في أعوام ردة وفتور وتكالب لقوى الثورة المضادة فالأمر لا يعني بالمرة أن الثورة انتهت "وكفى الله المؤمنين شر القتال".


من أين نبدأ؟


عندما نتحدث عن ثورات الربيع العربي فهناك شبه إجماع لدى مختلف الكتاب ان البداية هي الثورة التونسية والعمل البطولي الذي قام به البوعزيزي والذي بإحراق ذاته أشعل الثورة في تونس وفي بقية الدول العربية الأخرى. لكني اعتقد وعلى ما لهذا الحدث من أهمية الا ان سوق التحليلات بهذا الشكل ما هو الا تسخيف لهذه الثورات العظيمة والتي بدأت بالفعل كثورات لشعوب مقهورة لم تجد بدا من الانتفاض ضد مستغليها من حيتان الأموال والزعامات التي أمعنت في ارتهانها للرأسمال العالمي، وأمعنت منذ بداية القرن الجديد في السياسات النيوليبرالية التي لم تترك حجرا على حجر من المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت حققتها الطبقات الشعبية في فترات سابقة من نضالاتها الاجتماعية والمعادية للاستعمار، وهنا الحديث عن مصر على سبيل المثال حيث انها في الفترة الناصرية ساهمت ليس فقط في بناء عزة وطنية حقيقية (مع ما لنا من مآخذ على هذه الفترة)، بل ان الناصرية ساهمت أيضا في بناء اقتصاد وطني قد بدأ لأول مرة بتحسين ظروف عماله وفلاحيه ورفع القيمة الحقيقية لأجورهم وتأميم أراضي الاقطاع وتوزيعها على الفلاحين الصغار.
المكتسبات التي حققتها الطبقات الشعبية المصرية على مدار عشرات السنوات، حيث تعرضت الى أفظع عمليات السرقة والنهب في فترة حكم السادات وما مثله من إدخال مصر الى ساحة الاذدناب للقوى الامبريالية العالمية والرأسمال العالمي. الا ان هذه الحملة من سرقة مقدرات الشعب المصري لم تتوقف مع انتهاء عهد السادات واغتياله بل تمادت أكثر في فترة حسني مبارك خصوصا في نهاية الثمانينات حيث الفترة "الذهبية" للسياسات النيوليبرالية العالمية والتي دفعت بالحكومة المصرية لخصخصة القسم الأكبر من الشركات الحكومية والمؤسسات الحكومية الى أيد خاصة تحت الذريعة الممجوجة اياها والمستعملة في جميع انحاء العالم، ان هذه الشركات لا تربح وانها عبء على الدولة وعلى المجتمع وهو الامر الكاذب في طبيعة الحال حيث ان من بين 314 شركة حكومية مصرية كانت 260 منها ربحية وهو الأمر الذي لم يمنع نظام مبارك من خصخصتها بأغلبيتها المطلقة وببيعها بأبخس الأثمان.
في السنوات القليلة التي سبقت الثورة المصرية تغولت التقاطبات الطبقية في مصر بشكل غير مسبوق، وهو الأمر الذي أدى الى حراك شعبي ونقابي في السنوات السابقة لـ 2011 فعلى سبيل المثال كان هناك مظاهرات واضرابات مصانع غزل المحلة الكبرى في العام 2008، والتي أظهر فيها العمال وعيا نقابيا حقيقيا حيث احتل أكثر من 20 الف عاملة وعامل شوارع البلاد وهو الأمر الذي استمر لاحقا بخلق حركات مثل 6 أبريل ومنظمات شبابية وعمالية، لتكون هذه في بداية الـ 2011 لب الحركة الثورية التي ستقود الثورة في 25 يناينر.


الثورة والثوار


مع بداية الثورة المصرية كانت هناك 4 فئات مركزية هي التي ساهمت وتداعت للاعلان عن المظاهرات والاعتصامات في الـ25 من يناير وهذه المجموعات هي: شباب اليسار التقدميون من شيوعيين واشتراكيين وثوريين وناصريين؛ مجموعات من الشباب الليبراليين والذين دعموا في تلك الفترة البرادعي؛ مجموعات من شباب الاخوان الذين لم ينصاعوا لقرارات القيادة الإخوانية في تلك الفترة والتي آثرت البقاء على الحياد في فترة الأيام الثلاثة الأوائل وحتى رأت هذه القيادة ان الفرصة مؤاتية دعت للنزول الى الشارع؛ أما الفئة الرابعة فهي مجموعة من الناشطين من اليسار الجديد بالذات من حركة 6 أبريل ومن نشيطي الجمعيات المدنية المختلفة.
من نظرة سريعة الى هذه القوى التي أطلقت العنان للثورة الشعبية يمكن ملاحظة ما يلي:
1. انه لا توجد قيادة واحدة موحدة للعمل الثوري في تلك الفترة، وبالتالي كان النضال والعمل في "جمهورية ميدان التحرير" عملا ديمقراطيا مباشرا من الدرجة الأولى من جهة، ولكن كانت تنقصه الآلية التي يمكن ان تحسم في الخلافات وتتخذ القرارات بشكل سريع وحاد.
2. على الرغم من انضمام الإخوان الشباب الى صفوف شباب التحرير منذ البداية الا ان هذه المجموعة كانت متمردة على قيادتها، وهو الأمر الذي يبرز مرة أخرى مدى انتهازية القيادة الإخوانية والتي هي على الصعيد الطبقي والاجتماعي غير بعيدة بالمرة عن النظام الحاكم، وشكلت في أحسن الأحوال تمثيلا لشق مختلف من الطبقة الرأسمالية الحاكمة والمستفيدة حتى النخاع من السياسات النيوليبرالية التي تبناها النظام الحاكم منذ فترة السادات ولاحقا وبشكل أبرز منذ نهاية الثمانينات، والدليل على ذلك ان الحكومة الاخوانية بعد ان استلمت السلطة لم تغيّر بل بالعكس استمرت في ذات السياسات النيوليبرالية والخصخصة الخنازيرية لمقدرات ولمؤسسات الشعب المصري.
3. على الرغم من الاختلاف والتعدد في القوى التي دعت وشكلت الثورة المصرية الا ان وضع شعار أساسي ذي أبعاد  اجتماعية واضحة وهو "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" كان ينم عن وعي كبير من جهة وعن تعطش الطبقات الشعبية في مصر لمن يرفع اسمها ومصالحها بشكل واضح لا لبس فيه، وعن استعدادها للذهاب الى جانب من يمثل مصالحها الحقيقية اذا ما أظهر هؤلاء التزامهم الثوري الحقيقي بهذه الشعارات والعمل على تطبيقها على أرض الواقع.
على الرغم من انتصار الثورة الأولى ونجاحها في اسقاط الرئيس مبارك الا ان فئات رأس المال استطاعت الالتفاف على الثورة وسحب البساط من تحت الشباب الثوري الذي استطاع احتلال ميدان التحرير بفعالية ونشاط على مدار 18 يوما حتى اسقاط مبارك، لكن فئات محتلفة من المشاركين في الثورة اعتبروا ان الثورة بمثابة وجبة من الأكل السريع التي يتم تحضيرها خلال وقت قصر والتهامها بوقت أقصر، وهو الأمر الذي تم اثباته مرة تلو الأخرى انه خاطئ وغير موجود في الحياة الحقيقية. وبالتالي مع استلام المجلس العسكري الأعلى الحكم من أيدي مبارك بدأت فئات مختلفة من المساهمين بالثورة بالتراخي لتصبح الثورة لقمة سائغة في فم قيادات الجيش (بالاختلاف عن العسكريين البسطاء أبناء الشعب والطبقات الشعبية) التي عبّرت، عن مصالح فئات معينة من الرأسمالية المصرية والمرتبطة على مدار عشرات السنوات مع المركز الإمبريالي والرأسمالي الأعتى في العالم الا وهو الولايات المتحدة. مع عدم تواجد جهاز سياسي "وحزب ثوري" حقيقي مع أجندته وقدراته التنظيمية والرؤيا الاستراتيجية بعيدة  المدى لم تستطع الفئات الثورية الحقة من ايصال مرشحها (حمدين صباحي في ذلك الوقت) الى سدة الحكم، ولم تستطع ان تقنع الفئات الشعبية بوجوب الاستمرار في الثورة حتى قلب النظام وأولوياته الاجتماعية من أساسها وليس فقط بتغيير وتبديل الأشخاص، ان كان بالمجلس العسكري بداية ثم بممثل "الرأسمالية الاسلاموية" محمد مرسي لاحقا في إعادة للسيناريو السابق بوصول السيسي الى الحكم.


دروس للمستقبل


لا يمكن القول ان الثورة المصرية قد انتهت. ان النظرة السريعة الى ثورات العالم المختلفة تعلمنا ان الثورات هي عمليات للمدى البعيد تتقدم وتتراجع نتيجة لعوامل "موضوعية" من الصراعات الطبقية والاجتماعية المختلفة، ولكن ليس أقل أهمية من ذلك هنالك العوامل الذاتية وهو وجود جهاز قادر على ترجمة التفاعلات الموضوعية وعلى قيادة الجماهير الثائرة نحو أفق ثوري حقيقي يتجاوز الموجود. أعتقد ان 25 يناير هي محطة أمل وإشعاع وعلى الرغم من الاخفاق الذي حدث لهذه التجربة لاحقا الا انه من المبكر نعي التغييرات الثورية في مصر من جهة، ومن جهة أخرى أثبتت هذه الثورة ان الشعوب العربية ككل الشعوب قد تصبر وتمهل طويلا جدا ولكنها لا تهمل. ومع الخطاب والتنظيم الثوري الحقيقي فإن لا الرأسمال العسكري ولا الرأسمال الاسلاموي محصن في وجه ثورات شعبية حقيقية، والدليل على ذلك "جمهورية ميدان التحرير" وشعار "عيش، حرية، عدالة اجتماعية".

السبت 26/1/2019


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع