25 يناير، ذكرى انتصار الثورة المضادة

حسن مصاروة


ليس من الطبيعي ابداً انه حينما يتم الحديث عن "ثورة"، أن يسأل السؤال، بعد مرور 8 سنوات فقط عليها، ماذا تبقى منها، من ثورة 25 يناير؟
لنبدأ من النهاية، العام 2018 المشهد: برنامج حواري على قناة مصرية، الضيوف: لواء متقاعد  في الداخلية (المنظومة التي قامت الثورة ضدها متجسدة في شخص) أمام احد نشطاء ثورة يناير المعروفين. اللواء يهاجم الثورة ويصفها بالمؤامرة ونشطاءها بالعمالة، هو ذاته الذي كان لا يجرؤ على الخروج من بيته بعد اشهر من الثورة، قبل 8 سنوات فقط، الآن يتكلم بثقة المُنتصر ويُقرع "الثورة" ويوجه لها التُهم، وفي المقابل يدافع الناشط الثوري عنها وعن شرعيتها.
هذا المشهد هو علامة مُلخصة ورسالة واضحة لما آلت اليه ثورة يناير، الموضوع ببساطة هو أنه حينما تضطر للدفاع عن "ثورتك" أمام من قامت عليه هذه الثورة، امام مُمثل لأحد اركان النظام الذي قامت الثورة من أجل أن تخلخله، فعليك أن تعترف أن هناك "خطأ ما" قد حصل خلال هذه السنوات الماضية. يقول الثوري الفرنسي العظيم ماكسمليان روبسبير في احد رسائله أن الثورة بمجرد أن تُقدم الملك للمحاكمة قبل جره إلى المقصلة، فهي تُحاكم نفسها، أي الثورة، وتضع شرعيتها هي تحت المسائلة. فما بالك يا صديقي الثوري حينما يُحاكم "الملك" ذاته الثورة على الملأ ويوجه لها التُهم، هل هناك علامة أوضح من ذلك أن "ثورتك" تعرضت لهزيمة ساحقة ولم يبق منها إلا أحلام تحولت الى سراب.
الثورة بُكل بساطة لا تدافع عن نفسها، الثورة لا تُحاكَم ولا توضع موضع الاتهام ولا المساءلة، الثورة تحاكم وتتهم وتسائل وتُنفذ، الثورة هي الناطق بلسان حالها بالفعل الثوري، الثورة لا تستمد شرعيتها من أحد، وبالتأكيد ليس من المنظومة التي قامت عليها، الفعل الثوري كفيل بأن يخلق شرعيته بذاته، بل إن هذا تعريفه الأساس، سلب الشرعية من المنظومة القائمة وخلق شرعية جديدة للمنظومة التي يريد أن يُحلها، ليس قبل الثورة، ولا بعدها بـ8 سنوات بالتأكيد، بل خلالها. لذلك بالذات حينما يحاكم "الملك" ثورتك بعد 8 سنوات من قيامها، فآن الأوان أن تعترف بالهزيمة. ها هو صديقنا القديم روبسبير يُربت على كتفك ايها الثوري المهزوم وأنت في قمة غضبك تدافع عن ثورتك، ويقول لك: "إهدأ يا صديقي، إعترف بالهزيمة وراجع نفسك، إستخدم المقصلة في المرة القادم، نتائجها مضمونة".
لنعد الى البداية، مليون متظاهر يخرجون إلى ميدان التحرير مطالبين بإسقاط النظام، ليتحولوا في ظرف أيام الى اكثر من من 15 مليونا، يتظاهرون في القاهرة والاسكندرية والسويس وبورسعيد، مظاهرات تجتاح المدن الكبيرة والصغيرة وحتى القرى والأرياف، اشخاص ينظمون أنفسهم بانفسهم، بشكل تلقائي وعفوي، دون قيادة واضحة، دون تنظيم هرمي مركزي يقودهم ويحمل مطالبهم، يخوضون تجربة شعبية ديموقراطية عفوية، يكتسبون خبرات ثورية ويتناقلونها بشكل أفقي. مشهد جميل لا شك، مثير للمشاعر فعلاً. 18 يوما فقط ويخرج نائب الرئيس ليعلن أن مبارك قد تنحى نهائياً عن منصبه  كرئيس للجمهورية وان المجلس الاعلى للقوات المسحلة قد تسلم ادارة البلاد، فرحة عارمة تعم الجماهير الثائرة، لقد حققوا شيئاً عظيماً. لكن الآن يأتي السؤال الأصعب في كل انتفاضة شعبية، السؤال الذي يطرحه الفيلسوف الاشتراكي سلافوي جيجك فيما يخص التحركات الجماهيرية الثورية: "ماذا قد تغير في الصباح التالي" ؟. بعد ليلة طويلة من الفرحة العارمة والشعور بالعظمة والقدرة الكلية على التغيير، وبعد أن قام المتظاهرون بتنظيف الميدان معاً وبشكل عفوي في مشهد انساني جميل، جاء الصباح التالي ليحمل السؤال الأصعب. "والآن ماذا نفعل؟".
المجلس العسكري يضحي برأس النظام ككبش فداء، ويحافظ على شرعيته بصفته المُنحاز للمطالب الشعبية، ولأن "التعب" و"اليأس" ليسا فقط سيكولوجيا فردية تصيب الأفراد بل انطولوحيا جمعية ايضاً قد تصيب الجماهير كما يقول سلافوي جيجك، وفي ظل غياب تنظيم هرمي يقود الجماهير المنتفضة حتى النهاية يحمل مطالبها ويمثل مصالحها الطبقية، فقد كان من السهل على المجلس العسكري كممثل لمصالح الطبقة الحاكمة، أن يجهض المسار الثوري بمسار "ديموقراطي" مصطنع بتآمر مع واشنطن والاخوان، بواسطة فرض انتخابات تشريعية ورئاسية سريعة. لوضع حد امام الانتفاضة بأن تسير مسارها الطبيعي بعد عقود من تغييب السياسية والفعل السياسي عن الجماهير؛ الفعل السياسي الذي اقتصر على طرفي اللعبة السلطوية، النظام والاخوان. المسار الثوري الطبيعي الذي يجب أن يحظى في هذه الحالة بفترة انتقالية طويلة تسبق الانتخابات كآخر تتويج لمسار التغيير الديموقراطي. هذه الفترة التي تستطيع من خلالها الجماهير الثائرة تطوير تنظياتها المُستقلة وبلورة مشروعها ورؤيتها وبناء تحالفاتها التكتيكية والاستراتيجية، والوصول الى الفئات الشعبية في الارياف والاطراف المصرية، هذه الفئات التي كان الوصول اليها حكراً على الاخوان على مر عقود خلت بواسطة المساجد والدروس الدينية والمشاريع الخيرية وُسلطة المُقدس السماوي. وهذا ما توافق مع استراتيجية الولايات المُتحدة في منع نهوض مصر، والمحافظة عليها كدولة تتسول المعونات الامريكية لا تبني اقتصادها المُستقل المتمركز حول الذات، رهينة للسياسات الامريكية في المنطقة. فتقوم بالتآمر مع المجلس العسكري بتقديم الانتخابات ومنح الشرعية الوحيدة للصندوق لا للشارع الثائر، والمجلس العسكري مُرتبط عضوياً منذ عصر السادات بالسياسة الامريكية وتحمل قيادته الولاء المباشر لواشنطن فكثير منهم تلقى تدريبه وتعليمه في واشنطن وتلقى على مر سنوات معونات امريكية تقدر بالمليارات اغتنت على حسابها قطاعات كبيرة من الجيش. ليرسي قواعد اللعبة المثلث الذي شكل النظام الحاكم في مصر منذ عصر السادات، والذي تكلم عنه المفكر سمير امين، المٌثلث الذي يقبع رأسه في واشنطن وتشكل قاعدت المؤسسة العسكرية والاسلام السياسي.
من الطبيعي حينما تجرى الانتخابات دون فترة انتقالية أن ينتصر التنظيم الذي سُمح له وحده أن يمارس السياسية في عهدي السادات ومبارك وبتوجيه من امريكيا وهو تنظيم الاخوان المُسلمين. فيتقاسم كل من المجلس العسكري والاخوان الكعكة، ويتحول "اعداء" الماضي الى أصدقاء اليوم، وهم لم يكونوا اعداءً يوماً بل جزءاً مكوناً للسلطة ذاتها. ولأن الاسلام السياسي لم يملك يوماً تقديم بديل للمنظومة الاقتصادية-الاجتماعية الحاكمة. مارس نفس السياسيات التي مارسها النظام السابق من خضوع تام لسياسات البنك الدولي. جلب نتائج كارثية على الشعب المصري في سنة واحدة وصل حد التضخم والبطالة والفقر الى حدود لم يصل اليها سابقاً، حتى تحت ظل مبارك. فما كانت من الجماهير التي عرفت الطريق الى الشارع الا أن تنتفض بملايينها من جديد ضد حُكم الاخوان. لكن مرة أخرى النظام القديم متمثلاً بقيادة الجيش، الذي لم يتم تحييده على يد الاخوان بل تم تقاسم كعكة السُلطة معه، كان مستعداً للانقضاض. ووضع حداً لتطور مواجهة ثورة حقيقية بين الشعب والسلطة المُتمثلة بالاخوان هذه المرة، حائلاً دون نضوج هذه المواجهة مرة أخرى. ليتدخل ويزيح الاخوان عن الحكم فيظهر مرة اخرى بمظهر المُنحاز الى مطالب الشعب وبشرعية أكبر من اي وقت مضى هذه المرة متجسدة بشخص عبد الفتاح السيسي الذي ظهر بمظهر البطل المُنقذ.

وبهذه الشرعية الشعبية استطاع النظام القديم أن يستأثر بالسلطة وحده دون أن يقاسمه عليها أحد، فيعيد استنساخ النظام السابق، نسخة رديئة من نظام السادات ومبارك، لكن بدون أي مسحة خجل، استعداء مباشر للفقراء والطبقات الشعبية، انسحاب شبه كامل للدولة من الاقتصاد، تخصيص مُطلق، حرب معلنة على القطاع العام،رفع الدعم عن المواد التموينية الرئيسية، تردي التعليم الحكومي امام التعليم الخاص وتردي قطاع الصحة العام امام المستشفيات والعيادات الخاصة، انسياق كامل وراء السياسات الامريكية في المنطقة، ارتهان شبه كلي لدول الخليج وفتح ابواب مصر مشرعة امام الاستثمارات السعودية والاماراتية. في المقابل القيام بمشاريع اعمارية وهمية المستفيد الوحيد منها هم مقاولو المجلس العسكري، وتصاعد غير مسبوق بدرجة القمع ومنع العمل السياسي، من منع تظاهر واعتقلات بالمئات واختفاء قصري لنشطاء. أي ان الدولة في حين تنسحب كلياً من المجال الاقتصادي وتتركه لكبار رجال الاعمال وأغنياء الجيش المتقاعدين تُثبت حضورها بالقمع الغير مسبوق في المجال السياسي.
اما ميراث ثورة يناير فبقي في يد مجموعة من مثقفي الطبقة الوسطى التي قادت الثورة منذ البداية ولم يتوسع ليشمل الفئات الشعبية من الطبقة الفقيرة والمسحوقة، وهي طبقة، اي الطبقة الوسطى، بحكم تكوينها وبنيتها تنشغل ف بقضايا الحريات العامة، والافكار الكلية مثل الدين والوطن، الحريات السياسية والقمع السلطوي لها، علاقة الدين بالدولة، ثنائية المدنية والعسكرية. خاضت بعض النضالات هنا وهناك منذ استلام السيسي للحكم، مثل قضايا الاعتقال السياسي وقضية الدفاع عن تيران وصنافير. كلها نضالات منزوعة التحليل الطبقي وفيها تغييب كامل لثنائية الطبقة المُستغِلة\ الطبقة المُستَغلة، والتعامل مع المجلس العسكري بصفته كيان سياسي، لا بصفته ممثلاً لمصالح الطبقة الاقتصادية الحاكمة، ولا زال بعضها عالقاً في ثنائية الاخوان-العسكري، بعضهم يرى في الاخوان حليفاً طبيعاً ضد السُلطة والآخر يرى أن السلطة الحالية على سوئها لا ينبغي لانقلاب عليها، بل الخوض في نضال اصلاحها من أجل تحسينها خوفاً من عودة الاخوان. مجموعة لا يشغلها التكوين الطبقي للمنظومة، بل تشغلها البُنية الفوقية للمنظومة اي التعبيرات الايدلوجية للعلاقات الاقتصادية الاجتماعية، تخوض نضالاً أفقياُ لا عمودياً.
اذًا هذه هي حال مصر بعد 8 سنوات على ثورة يناير، انتصار ساحق للثورة المضادة، توغل بلا خجل في سياسات النظام السابق وانصياع تام للسياسات الاقتصادية للبنك الدولي واستعداء مباشر للفقراء والمسحوقين، في المقابل معارضة مشتتة دون رؤية او استراتيجية، تفقد اي قدرة لتجنيد الفئات الشعبية - الضحية المباشرة، يأس كامل من العمل السياسي والتغيير يُخيم على الملايين التي حملت احلامها الخطيرة قبل 8 سنوات الى ميدان التحرير. لعل الأمل الوحيد المتبقي هو قول الراحل سمير أمين: "ان الثورة ربما لم تغير النظام، لكنها غيرت الشعب". الشعب بات يعرف الطريق، ويعلم جيداً رغماً عن اليأس المُسيطر أنه حينما يتحرك يستطيع أن يُغير شيئاً. لكن على الفعل الثوري أن يعي جيداُ هذه المرة قبل القيام بأي خطوة قادمة أن "هناك الصباح التالي" وأن هذا الصباح لا يجب أن يُحدد سيره "الملك"، لأن الملك في هذا الصباح لا يستطيع أن يتكلم حتى، لقد صمت للأبد. ها هو صديقنا القديم روبسبير يعود مرة أخرى ويهمس في أذنك: "هل تريد استعارة المقصلة، لدي الكثير".

السبت 26/1/2019


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع