رحل الشاعر الكبير محمود درويش عن الحياة, وسيختفي عن الانظار, احتجاجاً على الانحدار والانقلاب ونبذ الآخر, رحل تاركاً الشعر والارث والقضية ومعاناة الناس من ابناء شعبه المصلوب المعذب, تركهم لحاملي راية فلسطين في وجدانهم وعنواناً لنضالهم وهدفاً نبيلاً لحياتهم, فقد أصر على الرحيل رفقة للكبار الذين سبقوه بدءاً من الخلاّق المبادر ياسر عرفات الى الحكيم جورج حبش مروراً بأساتذته الرفاق اميل حبيبي واميل توما وتوفيق زياد الى ادوارد سعيد وابراهيم ابو لغد وجبرا ابراهيم جبرا الذين حملوا القضية واندمجوا بها وقضوا من اجلها, فعظمة فلسطين ليست فقط في عدالتها, بل في حجم الكبار الذين التصقوا بها مبشرين لها رافعين لراياتها في الكلمة والموقف والابداع وكسب بني البشر لصالحها.
رحيله لم يكن مفاجئاً, فقد كان اصدقاؤه ياسر عبدربه واسعد عبدالرحمن ومحمد بركة واحمد الطيبي يعرفون ذلك, ولهذا اصر اكرم هنية من بينهم على مرافقته, والبقاء الى جانبه في مستشفى هيوستن الاميركي, حتى وافاه الاجل.
طبيبه الفرنسي رفض اجراء العملية له وقال "لا تستعجل الرحيل"، ولكن الطبيب الاميركي العراقي المولد والذي رفض تلقي اتعابه حينما عرف هوية مريضه, وصف الحالة الدقيقة الخطرة على ان نجاحها يقترب من الخمسين بالمائة, وعليه المجازفة, فقبل محمود درويش المجازفة, لانه شبع من الحياة والتقدير والمكانة الرفيعة وانه لن يحصل على نوبل لاسباب سياسية لانه ضد الصهيونية والاستعمار, ولذلك عجل على الرحيل احتجاجاً ورفضاً للواقع المتردي والاحتلال والانقلاب، فكتب يقول يوم 17/6/2007 بعد ثلاثة ايام من انقلاب حماس: "هل كان علينا ان نسقط من علو شاهق, ونرى دمنا على ايدينا, لندرك اننا لسنا ملائكة, كما كنا نظن, وهل كان علينا ان نكشف عوراتنا امام الملأ, كي لا تبقى حقيقتنا عذراء, كم كذبنا حين قلنا: "نحن استثناء".
وكتب رداً على اتفاقية الهدنة بين حماس واسرائيل: "كيف يمكن ان نكون ودودين مع من يكرهوننا, وقساة على من يحبوننا, تلك هي دونية المتعالي, وغطرسة الوضيع".
ولأن رحيله لم يكن مفاجئاً, فقد كرمته حكومة سلام فياض واصدرت طابعاً بريدياً تقديراً لعطائه وفنه واخلاصه لقضية شعبه يوم الثلاثاء 29/7/2008 وكرمته بلدية رام الله بإطلاق اسمه على احد ميادين رام الله، فعبر عن ذلك بكلمة بليغة ذات دلالة يوم 5/9/2007: " اود ان اشكر بأعمق المشاعر والعواطف مبادرة بلدية رام الله بالاقدام على شيء غير عادي في حياتنا العربية والفلسطينية, فليس من المألوف ان يكرم الاحياء، وهذه سابقة وكان يفترض ألا يكون مكاني هنا, ليس من الضروري أن اكون في هذا الحفل لان الموتى لا يحضرون حفل تأبينهم, وما استمعت اليه اليوم هو افضل تأبين, يتعذر عليّ ان اسمعه فيما بعد".
حينما خرج من غرفة العمليات, وبقي مغيباً, فاقداً الوعي بين الموت والحياة, ناشده احمد الطيبي قائلاً: "انهض, انهض, فلسطين كلها والعرب تحمل قلوبها وصلواتها اليك, انهض, حاصر حصارك, اقهر مرضك وانهض". لكنه لم يستجب وقرر الرحيل بقرار ذاتي, لان ضميره مرتاح, فارتاح قبل ان تتحقق نبوءته مخاطباً الاسرائيليين: "اخرجوا من ارضنا, من برنا, من بحرنا, من قمحنا, من ملحنا, من جرحنا, من كل شيء فينا, واخرجوا من ذكريات الذاكرة, أيها المارون بين الكلمات العابرة".
محمود درويش لم يكن قائداً سياسيا, ولم يرغب, ولذلك تم انتخابه رئيسا لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين واستقال, وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ورفض, لانه لم يكن يرغب ان يكون اسيراً للوظيفة وللسياسة وللادارة, ولهذا انتصر محمود درويش, لانه حوّل فلسطين الى قصيدة, ومن ثم تحول هو الى وطن لكل عشاق فلسطين, من العرب ومن غير العرب, بل ومن كل عشاق الحرية والمستقبل ومن بني البشر.
سيبقى محمود درويش خالداً لسببين اولهما لانه شاعر عربي، فسيبقى كما بقي المتنبي واحمد شوقي، وثانيهما لانه فلسطيني الهوية والقضية والعنوان حتى لو هزمته السياسة وقرارات الأمم المتحدة. ولانه اختار الرحيل, سيتم احترام خياره, وسيكرم بما يليق به من الفلسطينيين ومن الاردنيين, ومن العرب ومن قبل كل من أحبه كإنسان وكشاعر وقضية.
hamadehfaraneh@yahoo.com
حماده فراعنة
الأثنين 11/8/2008