رحل محمود درويش امير وفارس الشعر وعميد الشعراء، وشاعر الوطن والتراب الفلسطيني. رحل "مايكوفسكي" و"نيرودا" فلسطين الذي جعل من الفن ثورة مقاتلة ومن الثورة فنا مقاتلا. رحل شاعر المقاومة والحرية والرفض والغضب والثورة والحب والجمال، غاب رائد المشروع الثقافي الفلسطيني وصاحب "اوراق الزيتون" و"عاشق من فلسطين" و"اعراس" و"في حضرة الموت" و"جدارية" و"زهرة لوز" وغير ذلك.
غاب الصوت الشعري الحريري العذب الصافي والقوي، الذي طالما غنى للقضية وللجرح الفلسطيني والزعتر وزيتون الجليل، وهتف لحيفا ويافا والكرمل والجليل، وترك "الحصان وحيدا"، وقبل ان يكتب قصيدة الانتصار في الزمن الفلسطيني الصعب.
محمود درويش رمز شعري وسفير الكلمة الحرة المقاتلة، وأحد الاعمدة العملاقة في التاريخ الفلسطيني والعربي ومن اهم الشعراء العرب في العصر الحديث. انه ايقونة فلسطينية. بالتعبير الاسطوري، وظاهرة شعرية متفردة وقامة ثقافية حضارية وانسانية شامخة ارتبطت مسيرته، حياة وشعرا، بالثورة الفلسطينية، ومنذ ان بدأ يمارس الشعر كان شاعرا ملتزما بقضية شعبه، فهي هاجسة اليومي وكل كلمة قالها حملت بذرة المقاومة والتحدي، وكل قصيدة لحضت التجربة الفلسطينية والحلم الفلسطيني والحلم العربي.
لقد تجاوزت شهرة محمود درويش حدود وجغرافيا الوطن، وعشاق شعره يعدون بالملايين، انهم ينتشون بشعره الحقيقي الرفيع والجميل، الذي جمع بين العالمية الواسعة والفلسطينية المشتعلة صدقا، بين النبرة الثورية والرؤية الانسانية، وبين سطوع الفكرة وعفوية الكتابة الشعرية والنثرية، الفنية الابداعية. ويكفي درويش انه في كل قصيدة كتبها وقالها كان يهز فضاء الشعر واعمدته المقدسة، ويخلخل الموروث، رؤية وفكرا.
محمود درويش شاعر الثورة وابن الشعب الفلسطيني وطبقته العاملة، شاعر الحركة الكفاحية الفلسطينية، شاعر الامل والتفاؤل، هو شاعر ملهم واصيل ومجيد، توهج وتألق واجاد في الشعر والنثر، وتمتع بعمق ابداعي وكان له دور هام وعظيم في صياغة هوية شعرنا الوطني التقدمي الانساني الفلسطيني، واستطاع ان يراود الكلمة ويطوع اللغة ويبلور الكلام ويؤلف الجديد، فجاءت قصائده متفردة ومتميزة بخصوصيتها ولغتها، وفيها دلالات جمالية ورموز واشارات وموروث اسطوري وديني، كذلك فيها احساس مفرط ودفء وشفافية وعفوية صادقة وجمالية فنية، وهي مفعمة بالعبق الفلسطيني وبالروح الفلسطينية والانسانية وبعطر البرتقال والسنديان وبرائحة تراب البروة، وحين نقرأها نحس وكأن طعم الهال ينبعث من قهوة القصيدة.
ومحمود درويش رسم الوطن ومعالمه، وكتب عن المنفى والتجربة الفلسطينية، وحمل هموم وعذابات وجراح شعبه وأمته، وجسد آلامنا وآهاتنا واحلامنا وامانينا، نضالاتنا وبطولاتنا وانتصاراتنا وهزائمنا. كما كتب محمود مرتبته الاخيرة بنفسه، ونصوصه الاخيرة طفحت بالحديث عن الموت، وفي "جداريته التي كتبها في اجواء من الخوف والخشية المحيطة به، لشعور لازمة بأنه لن يعيش ليتمكن من قراءة قصيدته هذه، فيحسد تجربته الشخصية مع الموت، ونجده في هذا النص او العمل الابداعي يستخدم ويوظف جمل التنزيل حينا ويتلاعب فيها حينا آخر، مما يجعل شاعريته آتية من ذكاء القلب وفطرة الاحساس بالمجهول، ولا نجده يفقد وضوحه الفني، فيدير مع الموت حوارا مؤنسا بعمق الموت عله ينهي وصايا طرفة ابن العبد.
ان خسارتنا بمحمود درويش، متبني عصرنا، جسيمة وعظيمة، انها خسارة للشعر والادب والفكر والثقافة والمقاومة والقضية الفلسطينية والابداع الشعري الانساني الكوني، وللنضال الوطني والقومي العروبي.
فيا محمود: لقد استعجلت الرحيل، لكنك لن تغيب ابدا وستظل حاضرا في الوجدان، وماثلا امامنا بوجهك الناصع والجميل، وستبقى تسكن القلب والوطن بقصائدك الثورية والوطنية والانسانية وابداعك النثري الحقيقي. فنم قرير العين واهنأ بشعبك واسعد بوطنك يا شاعر الشعب الاصيل.
(مصمص)
شاكر فريد حسن
الثلاثاء 12/8/2008