أيّها الثَمِلُ شِعراً..
احملْ فَراغَكَ.. واملأْه بالشِّعر والكلماتِ، قَبْلَ أنْ تُوصدَ البابَ خَلفك..
فَلا تاريخَ..إلاّ ما يُؤرِّخه رَحيلُك!
أَستعيُرك ولغتَك منك.. وأُحارُ في أمري وأمرِك، وأَمْر مساحة، يأبى بياضُها أنْ يحمل عبءَ مفرداتٍ تُعلن مغادرتَكَ الفجائيةَ. لِذا.. فتوقَّع منّي استحضارك على سجّادة تهيَّأت لاستقبالكَ بالكلمات.. سَجّادة صلاةٍ، نَدْنو منها حُفاةً دونَما نَعْل، متوضِّئين، ومُبسملين، ومُدَرْوِشين. دونَما اختلافاتٍ في الموقف والرَّأي –على الأقلّ حاليًّا- فالّلحظة.. لحظة صلاة. لا تتَّسع،رغم مساحتها الكبيرة، لمفردات العِتاب (ولو كان عقدّ المحبة).
أتوهُ في تفاصيل غيابك، وسُرعان ما يَعتريني انفصام، فلا أشعر أنَّ ثَمَّة غياباً لك!
فأيّ فوضى حواسٍ سبَّبتَ لَنا بارتكابك خَطَأك الفادحَ هذا؟ إلاّ أنّي أشعرُكَ تَرمي إلى مُداعبتنا بفعلتك هذه.. كما لو أنَّك تريد أنْ تُشعِلَ شيئاً كان قد أُخمِدَ فينا، أو تقذف لنا بشيءٍ لنستوضِحَه، ومن ثمََّ نأخذ نلهو به!
ولأولّ مرّةٍ حين أكتب أجِدُني تائهاً وَسْط جَمْهَرة كلمات، تتجمهر في ذهني، وبصعوبة، أتمكَّن ،رويداً رويداً، من تفريق تظاهرها لآتي بها إلى هذه المساحة التي أُعِدَّت لاستقبالك، لتُزَفَّ بالكلمات.
أرى اللهَ يراقب بصمت حالتنا، وحالتك.. ولو أنّي أجزم أنَّ رحيلك تقمَّصَنا حتى أمسى حالتنا. وتقمَّصْنا نحن حالتك.. حتى صِرناكَ..
نعم، صرناك.. أقولها.. والصَّاد فيها، صاد صَحْوٍ صادق، صاد صَباحاتٍ لم تعُدْ فيروز وحدها تملكها، من بعد أن انتقتك هذه الصباحاتُ لتصبحَ فَيْرودَرْويشيَّة الهيئة، والمزاج.
صباحات تهجم علينا وأنت لا تزالُ في ولاياتهم وويلاتهم المتّحدة. صباحات فلسطينيّة باتت تتلوك قُرآناً..وترتّلك. صباحات تُسرِّب إلينا عظيمنا ناجي العلي ليستعيرك هو أيضاً-ناسيا أو متناسيا كل الخِلافات- ليصفك بمناخه الصباحيّ، وفنجان قهوته الأول. ففي العالمِ الآخَرِ أظنّهم يحتًسونَ القهوةَ كذلك، مسارعونَ فيما بعد لاحتساءِ نَخب انضمامك إليهم. أمّا أولئك المارّون بين الكلمات العابرة، يَبدونَ لي مهيَّأينَ لجَمعِ أسمائهم وألوانهم البيضاء والزرقاء.. للانصراف، على الأقلِّ مُؤقّتاً، كما لو أنّهم شَعَروا بحِدَّة وصيّتك لهم، ذاتَ غَضَبٍ.
يَنقَلِعونَ مُفسحينَ لك مساحةَ وَطَنٍ بأكملِه، للعبور، وشريكتك الصباحيّة فيروز تدندِنُ بأنّهم: "كتارْ أو زُوّارْ..شوَي وبِيفِلّوا"..
استَحْضِرُكَ الآن، جَسَداً لا أبجديّة، فأتصوّرك واقفاً أمامي، أرفَعُ رأسي قليلاً وأنظر إليكَ جالساً، أمسكُ طَرَفَ نظّارتي بأصابعي، وأسألك مُبتَسماً: أحقًّا رَحَلت، أَم تراك كُنت تحلم فأعجبك حلمك لتظلَّ قابعاً في تفاصيله لدرجةِ أنْ ترتديَ ملامحه؟!
أسألكَ مُعاتباً وقد تَلاشى ظِلُّ ابتسامتي: كَمْ مِنَ الوقت يلزمنا، كَي نستوعب أنَّك غادرت؟!
أَلم نعد قادرين على تصديق ما قد يَبدو لَنا غَريباً..أم هي رغبتنا التي تتمثّل بأنْ نُحوّل واقعنا إلى حُلُم حين لا يعجبنا واقعنا؟!
ألم يقُلْ مارسيل بانيول: "تعوَّد على اعتبار الأشياء العادية..أشياء يمكن أن تحدث أيضاً"؟!
للمرّة الثانية أثناء كتابتي هذه الرسالة لك، أجدُني تائهاً، وكأنّني أطرش في زفّتك.. ولكن هذه المرة لا بين جمهرة الكلمات تيهي.. بل بين جمهرة أسئلة لا أعثر لها على إجابات، فاخترع إجابة سهلة، هي أنّك محمود درويش، وكل شيء قد نعتبره غريباً وخروجاً على المألوف، ليس غريباً عليك فعله.. فأيّ فعلة هذه يا سيدي؟ ماذا دهاك؟!
محمود درويش..
كأنَّ حروف اسمك شيفرة للأبجدية وللغة، فللمرّة الثانية آتي على ذكر اسمك، وفي كل مرة يكون له وَقعُهُ الخاصّ.. في كل مرّة يتحوّل إلى مفتاح يمكّنني من الولوج إلى بهو الكتابة..بهو مظلم لا يضيئه سوى اسمك الذي أحمله كشمعة يأبى حتى نورُها أنْ يضمحِلَّ، فتظلّ تجودُ نوراً.. فنجودُ كتابة عنك ولك!
أظنّكَ انتبهت إلى أنّي في أكثر من موضِع أتيتُ على ذِكْرِ سفيرتي إلى الله فيروز في خطابي هذا..لَيس عَبَثاً وثَمَّة تشابه بينكما.. ففيروز، صوتها يصالح الأشياءَ مع بعضها، ويوفّق كلّ المتضادّات، وها هوذا رحيلك، أو ما أسميه حضورك في فلسطين أخيراً، ها هو كذلك يصالح الأشياء مع بعضها ، ويرتّب فوضى الأمكنة، ويجمعنا تحت سماء واحدة.. كنا قد تخلّينا عن ظلها، واتخذ كلّ واحد فينا سماء خاصة به، فكان وجودنا تحت سماوات لم تكن لذات الرّب. وَحَّدْتنا بحضورك الجديد.. فطوبى لنا بك.. فليس غريباً إذن أنْ أستعيرك ولغتك منك.. واعذرني..إنْ كنتُ قد ارتديت ملامح أبجديتك..
ولأنّني لا زلت أرفض تصديق هذا الواقع.. لا زلت أحلم.. وآتي على ذكر الحلم أيضاً، وأسألك: ألا زلت تحلم أنَّ قلب الأرض أكبر من خارطتها؟ وهل لَمَسْتَ الحلمَ باليدِ، أم تركتَ الحلم يحلم وحدَه حين انتبهتَ إلى غيابك بِغتة؟
ولكن..لا تقلق.. وتذكّرْ نداء الحارس الليليّ عند الفجر، فَسَتَحيا ميتةً أخرى، ولكن بلا تعديل هذه المرة في وصيتك الأخيرة، والتي لن تُقدمَ أصلاً على كتابتها، فهي هجرةٌ أخرى.. أعطِ عمرك فيها فرصةً أخرى لترميم الحكاية، واعبُرْ ،أهلاً بك، في طريق الصّعود إلى شُرُفات السّماء، طريق الصراع على أيّ شيء، طريق الوفاق على كلّ شيء، طريق يؤدّي إلى بيت أمّك.. وخبزها وقهوتها..وحبل غَسيلها الّذي نَشَرَتْ عليه مُؤخّراً صُوَراً لك. وثِقْ بأنّها هجرةٌ أخرى.. فلا تكتُب وصيَّتك الأخيرةَ والسّلاما، وقِفْ..يا سيدي.. سَيَسْتمرّ الحلم حتى النهاية.. فشارِكْنا حُلُمَنا.. فكثيرون رَتّبوا أحلامهم بطريقة أخرى وناموا واقفين...
(رأفت جمال حسين-سابقا)
مصمص
رأفت آمنة جمال
الأربعاء 13/8/2008