المخضرم المتجدد صنع حداثته الخاصة



* انتصر الموت على محمود درويش بالجسد وليس بالروح. الروح الأقوى من الموت يعجز الموت عن اختطافها. شاعر في شفافية محمود درويش ورقته، يصعب على الموت أن يسلب قلبه، شاعر في عنفه المقدس وقوّته يصعب على الموت أن يسرق حياته *

رحل محمود درويش في أوج «شبابه» الشعري. الأعوام السبعة والستون التي انطفأت ليل السبت الفائت لم تزده إلا ألقا. وكان كلّما اكتشف خريف الحياة أوغل في ربيع القصيدة. لغته العذبة الجارية كماء النهر لم يشبها وهن ولا أصابها خمود، بل ظلّت تتوهج وكأنها تسترجع بداياتها ولكن بنضج النهايات التي لم تنته.
كان في الفترة الأخيرة على حماسة شعرية نادرة وعلى قلق لا يعرفه الرواد المكرسون عادة. «القضية» التي صنعته مثلما صنع اسطورتها تخطته كما تخطاها الى الأمام الذي لا وجهة سواه. أضحت هي الماضي الملطخ بالدم والأسى، وأمست القصيدة هي المستقبل القادر على احتواء الأرض التي كانت ولم يبق منها سوى ما بقي. كان الشعر كلّ همّه في أيامه الأخيرة وما قبلها. الوجه السياسي فيه كان قد تغّضن وغزته شآبيب اليأس، أما وجهه الشعري فكان أشد نضاره مما من قبل. كان أدرك ادراك اليقين أن «البيت أجمل من طريق البيت» كما قال مرة. البيت يظل حلما ببيت قد يصل اليه، حيا أو محمولا على الأكف، أما الطريق فهي المحفوفة بالاشواك والأخطار. البيت هو الحلم الذي قد يفتح أمامه أبوابه فيما الطريق شأن واقعي، وما أقبح الواقع عندما يغلبه اليأس أو القنوط. لكنّ محمود درويش وصل أخيرا الى البيت الذي بلا شرفة ولا عتبة ولا أبواب، وصل مغمض العينين ولكن ببصيرة لا تخبو وحنين لم تخمد ناره.
كان الشعر هو النهاية التي ارتجاها شاعر «جدارية». السياسة أنهكته والقضية أثقلت ظهره وبات يشعر بحاجة ملحة الى حريته، الحرية التي تجعله فردا في جماعة بعدما كان جماعة في فرد. كان الوقت حان ليواجه الشاعر نفسه في مرآة نفسه. مرآة الوطن غزاها الصدأ بعدما سقط الوطن في أسر الواقع الأشد مأسوية من التاريخ. اكتشف الشاعر أن «المنفى هو المنفى، هنا وهناك» وأنه شاعر المنفيين اللذين لا نهاية لهما، اللذين أصبحا قدره وقدر الذين هم هو، إخوة في الوطن واخوة في اللاوطن، في الشعر والتيه والترحال.
في آخر أمسية له أحياها في مدينة «آرل» الفرنسية قبل نحو شهر، أعلن محمود درويش جهارا انفصاله عن السياسة وانتصار الشعر عليها. إنها هزيمة الواقع أمام سلطة الحلم الذي لم تبق له سلطة في هذا العالم المأسوي. قال كلمته بجرأة وكأنه كان يحدس بأنه سائر الى موته، موته الذي لم يمهله كي «يعدّ حقيبته» كما يقول. جاهر بتعبه من عالم السياسة والسياسيين هو الذي كان في صميم القضية – على رغم ابتعاده عنها - ولا يزال، حتى بعد رحيله. البعد هنا قرب كما يقول المتصوّفة، والغياب حضور آخر، حضور بلون الغياب. وكم كان يزعجه في الآونة الأخيرة أن يُحصر في هويته السياسية فقط أو أن يسمى فقط شاعر القضية. كان يشعر أنه أرتقى بالقضية الى مصاف المجاز جاعلا من النضال السابق معجزة شعرية تخاطب الجميع، جميع المضطهدين والحالمين والمنتطرين. لم يلتفت محمود درويش الى الوراء بعدما وضع يده على المحراث، نظر الى الأمام هو ابن المستقبل الذي عرف كيف يصهر ماضيه في روحه. وظلّ يحدّق حتى أصبح في صميم الضوء.
انتصر الموت على محمود درويش بالجسد وليس بالروح. الروح الأقوى من الموت يعجز الموت عن اختطافها. شاعر في شفافية محمود درويش ورقته، يصعب على الموت أن يسلب قلبه، شاعر في عنفه المقدس وقوّته يصعب على الموت أن يسرق حياته. ليس قلب الشاعر هو الذي توقف عن الخفق، بل الزمن نفسه الذي طالما تصدى له وجها لوجه. لم تكن لحظة الموت غريبة عن شاعر الموت في «جدارية» و «في حضرة الغياب». لقد واجهه بعينين مفتوحتين وقلب متوقد. خبره عن كثب وعاشه بل ماته ثم نهض منه وبه جاعلا منه قصيدة ولغة وصورا متدفقة. خاطبه ورثاه راثيا نفسه والعالم، حتى بات عاجزا أمام سطوة كلمته. لكن الموت يأتي دوما كالسارق، على غفلة يأتي. ومثلما تنبأ في «جدارية»، لم يمهله الموت كي ينهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياته، لم يمهله حتى يُعدّ حقيبته. أغمض محمود درويش عينيه رغما عن الحياة التي كانت تصخب في داخله. شاعر الحياة غلبه الموت في ذروة الحياة التي لم تكن وجها آخر للموت بل كانت غريمه الأبدي. كان شاعر «سرير الغريبة» يردد: «أريد أن أحيا»، كان فعلا يريد أن يحيا كشاعر وشاعر فقط، لكن الشاعر الذي لم يحافظ إلا على سلطة «الحلم» كان أرق من رمح الموت الذي اخترق قلبه في أوج شبابه.
في العام 2004 جمع محمود درويش دواوينه الأخيرة حينذاك، وهي لم تكن الأخيرة، في مجلد واحد سماه «الأعمال الجديدة». كان فرحا جدا بهذه الأعمال ليست لأنها جديدة بل لأنها نشأت في قلب المشهد الشعري الراهن. شاعر مثله كان يكفيه ما حصد من أمجاد وما احتل من مراتب وما عرف من شهرة عربية وعالمية. لكن الشاعر الذي فيه، الشاعر المجبول بالقلق والحلم والرغبة لم يستكن يوما. لم يُغر محمود درويش يوما أن يبلغ ما بلغ من قمم بل ظل يحدّق الى الأبعد، الى ما هو أقصى من الضوضاء والمجد العابر والشهرة الوهمية. كان محمود درويش يعمل بجهد على تجديد نفسه وتحديث لغته وكأنه أحد الشعراء الشباب الذين يتلمسون طريقهم. يقرأ بنهم ويعيش بنهم ويحزن بنهم ويتقدم بنهم كما لو أنه يسابق عدوا لا مرئيا هو الزمن، العدو الذي لا يهادن. واستطاع أن يكون شاعرا مخضرما بامتياز، بل لعله الوحيد الذي منح «الخضرمة» معنى يتجاوز البعد الزمني، جامعا بين ماضٍ مشترك وحاضر خاص هو المستقبل نفسه. وكم عرف أن يفيد من قصيدة النثر من غير أن يتخلى عن قصيدته الحرة وعن الايقاع الداخلي أو «العروض» الداخلي الذي كان ماهرا في سبكه. كان شاعرا حرا ينتمي الى جيله من شعراء التفعيلة وشاعرا جديدا ينتمي الى جيل الشعراء الشباب في آن واحد. هذه الميزة لم يحظ بها إلا قلة قليلة من الشعراء في العالم. ومثلما كان متفردا بنضاله وشعره النضالي وغنائيته كان أيضا متفردا بحداثته التي بدت مختلفة عن «الحداثات» التي عاصرتها أو عاصرها. رحل محمود درويش. الألم سيكون كبيرا بدءا من الآن. هذا الشاعر الذي ورث الهزيمة والأسى والخيبة لم يورّث سوى الجمال والحلم والحب، لم يورّث سوى القصيدة الفريدة التي كان شاعرها. رحل محمود درويش تاركا اسمه الذي بات يعني منذ اليوم الشاعر المنتصر على الموت بالموت، الشاعر المنتصر على الموت بالشعر.
ليت الذين يحملون نعشه في الوداع الأخير يضعون عليه «سبع سنابل خضراء» و«بعض شقائق النعمان» كما كتب في ما يشبه الوصية. فهذا الشاعر فعلا لا يليق به الا جمال القمح الأخضر وخفر شقائق النعمان.

(لبنان)

عبده وازن
السبت 16/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع