تحقيقًا لوصيّتك يا محمود..!



محمود
أيها الحبيب
ما كنت احسب ان الغياب الذي ناوشك وجاذبته حتى تطلّ من فرجة الباب على افق البياض في "اللا هنا"... ما كنت احسب ان هذا الغياب الذي شيمته الغدر- كما تقول- سوف يغدر بك قبل ان يغدر بي فأجيء انا لأعزي فيك وكان هاجسي انك انت الذي ستعزّي فيّ!
محمود
أيها الحبيب... أيها القيثارة السحرية
اذكرك حين جئت وعلى جبينك ياسمين العشرين والدهشة تسكنك روحا قلقة جامحة...
حصانا جامحا كنت تدوزن الصهيل..
واذا للحصان جناحان يرفان، يقويان، يحوّمان ويقتحمان الذرى..
واذكر مسيرتك التي صحبتها والظمأ الى ينابيع المعرفة والحكمة وتجاوز الذات..
ادركت آنذاك – كما كتبت على غلاف مجموعتك "اوراق الزيتون" – ان هذا الفنن الذي انبتته زيتونتنا الخالدة – منذ ثلاثة وعشرين عاما، أورق واثمر فأنشد للجذع الراسخ والارض الملوعة والطير المهاجر.. يحتضن اعشاشه ويدعو اسرابه الى العودة".
صحبت مسيرتك الرائعة وكم تحدثنا عن جذور الموهبة وينابيع الابداع.. وناجيتك عندما بلغت الخمسين قائلا: أيهذا الجامح الذي لا تنفكّ البروق الساحرة تهمز جياد عربته النارية عبر الآفاق ليقطف ما وراء النجوم.
"يا من عمّدته ربة الشعر في نهر الابداع والخلود – ولكي لا تهفو هفوة تيتيس، ام اخيل، عادت فحملته من موقع آخر وعمّدته ثانية".... فكنت الشاعر الشاعر بلبل الالم والامل الذي يخلد في ضمير الاجيال..
أيها الحبيب محمود
ليطمئن قلبك، هذا الذي انفجر لوعة، فان جيل الشباب الذي روّعه نبأ رحيلك، وارتوى من خمر شعرك، هزّته وصيتك في الجدارية حيث تخاطب الموت:
"فيا موت انتظرني ريثما انهي
تدابير الجنازة في الربيع الهشّ
حيث ولدت.. حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين.."
فتنادوا ليحققوا هذي الوصية.." حيث ولدت.." واجتمعت فرق منهم، التقت عبر التنظيم، في وحدة هدف وعزم، فجئنا لنقيم لك جنازة الغائب في البروة.. حيث ولدت..
ما اروع ان تراهم في عنفوان زهرة العمر يعدّون التابوت الملفع بالكوفية وصورتك الباسمة المشرقة بالتفاؤل.. وبعد الصلاة عليه تحت سماء البروة يحملونه في مسيرة رائعة الى حيث مقبرة البروة التي يجاذبها الضياع ولكنها لا تزال تحتفظ باشجار الرمان واكوازه الكريمة، وبالصبار – حيا ويابسا، وببعض اشجار التين التي لم تكفّ عن العطاء..
هنا يا محمود، سُجّي النعش وتقدم المشيعون يحملون السنابل والورود، بل اكوازا قطفت من الجوار.. تلبية لوصيتك
محمود
أيها الحبيب
لا تسأل كيف وصلنا، فمعنا الخريطة التي رسمتها لنا في "لماذا تركت الحصان وحيدا؟ في حواب الأب والابن:
- "هل تعرف الدرب يا ابني؟
- نعم يا ابي:
شرق خرّوبة الشارع العام
درب صغير يضيق بصبّاره
في البداية، ثم يسير الى البئر
اوسع اوسع، ثم يطل
على كرم عمي "جميل
بائع التبغ والحلويات
ثم يضيع على بيدر قبل
ان يستقيم ويجلس في البيت
في شكل ببغاء...
- هل تعرف البيت يا ولدي؟
- مثلما اعرف الدرب اعرفه
ياسمين يطوّق بوابة من حديد
ودعسات ضوء على الدرج الحجري
وعباد شمس يحدّق في ما وراء المكان
ونحل اليف يعد الفطور لجدي
على طبق الخيزران
وفي باحة البيت بئر وصفصافة وحصان
وخلف السياج غد يتصفح اوراقنا...
وانت الذي اردت ان تدفن في تراب هذا المكان حيث تقول:
"انا هابيل رجعني التراب
اليك خروبا لتجلس فوق غصني يا غراب"
محمود
أيها الحبيب
اتذكر زيارتك البروة اول مرة بعد انقلاب قارورة الزمن
وما كتبت عن ذلك "الحج"؟
لقد رأيت دون ما نرى الآن مما يعبث الغزاة العابثون الذين يريدون ان يزوّروا التاريخ والجغرافيا، وقد قلت: "لا شيء يمنع هذا المكان من الانتظار قليلا.
هنا ريثما ترتدين قميص النهار
وتنتعلين حذاء الهواء...
محمود
ايها الحبيب
ظللت في السنوات الاخيرة تحاور الغياب والغياب يجاذبك قبل "الجدارية" وبعدها فاعتصرت منه ابعادا وجودية باهرة الكشف والابداع. لكن زيارات الغياب المتواترة، وروعة ما اثمرته في شعرك لم تعدّنا لهول المصاب. فكان النبأ طعنة  نجلاء، وكان اعتقال الذهول والفزع بالآمال الى الكذب
غبت جسدا لكنك حاضر ابدًا في ضمير شعبك، في وعي الاجيال المتعاقبة.
هذا فضاء البروة يعانقك وينتظر ترابه إن يحضنك ويعدّ لك النسغ لتنبت فيه خروبة شامخة.

حنا ابو حنا
الجمعة 22/8/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع