يمتطي الشاعر صهوة الريح في رحلة طويلة تشق الفضاء..ويطلّ منها على خارطة الدنيا..
وتكون الرحلة الطويلة من سماء الكرمل إلى الكرملين والساحة الحمراء إلى قاهرة المعز لدين الله الفاطمي إلى بيروت الأرز إلى دمشق الفيحاء إلى جزائر الأوراس إلى باريس الأنوار إلى تونس الخضراء إلى عمان"وِلْدِ هاشم" إلى....ثم إلى جميع العواصم الثقافية في خارطة الدنيا..
يحمل سندباد وطنه وقضية شعبه في حقيبته ويسافر..ويكون سفيرًا للشعر الفلسطيني والشعر الإنساني..وتنفتح الدنيا على الجرح الفلسطيني النازف عبر النافذة الدرويشية التي ترتدي زيًّا له مذاق متفرّد..لم تألفه القصيدة العربية الحديثة..ولم يألفه النثر العربي الحديث..
**
*شريط الذكريات*
عندما تلفت القلب..
قبل عشرة قرون وقف الشريف الرضي على أطلال الحبيبة..وكلما خطا وابتعد خطوة..قفز القلب من قلبه..وحنّ إلى زمان الوصل..وإلى ملاعب الصبا..وإلى حلو اللمى..وإلى قبلة العمر الطويلة في زاوية معتمة..
يزحف الزمن..ولم تفارق عينه ديارها..تسير القافلة..يمشي مترددًا..ثم يتوقف لحظة..ثم..يلتفت إلى وراء..وتختفي الطلول..
وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول..تلفّت القلب
وينوء المجنون بخافقه المعذّب..
ملأت سماء البيد عشقًا وأرضها وحمّلت وحدي ذلك العشقَ يا ربُّ
كم ينوء هذا القلب تحت عبء الذكريات العاصفة..فما زالت التفاتته مشرعة في ذاكرة التاريخ..حتى هذه اللحظة!
*روضة أولغا.. روضة ثقافية*
روضة أولغا.. في شارع حداد.. اسم المكان الذي يحتضن في السنوات الأخيرة أطفال حيفا الصغار ويرضعهم أجمل ما يرضعه الأطفال.. من عشق للأبجدية العربية..
عمل دؤوب لتغيير الحاضر الرمادي..من أجل مستقبل وردي..
أولغا وماجي ونهاد وأم عصام.. إخلاص بلا حدود.. وطيبة بلا حدود.. ومحبة بلا حدود..
إنها رسالة.. لا أروع ولا أشرف!
**
وقبل أن يصبح المكان "روضة أولغا"..كان "ملتقى الأحبة"..كان "روضة ثقافية" يلتقي تحت ظلالها نخبة كبيرة من الكتاب والشعراء والمثقفين والسياسيين..الذين يشكلون ملامح الخارطة!
لم تكن روضة آنذاك.. كانت مسكنًا يسكنه محمود درويش.. وكان المكان ملتقى الأصدقاء.. لقاءات ثقافية وأحاديث أنس..
*إستراحة المقاتلين*
إلى أن كان يوم حزيراني..زلزل الخارطة العربية من محيطها إلى خليجها!
وتقرر أن يكون الملتقى ملتقى أدبيًا نناقش فيه قضايا أدبية صرفة..بعيدًا عن الهموم السياسية الطاحنة..وبعيدًا عن وقع الصدمة والطعنة النجلاء التي تركها الخنجر الحزيراني في القلب..
هروب عابر..وكأس نواسية وهمية ترتقي محلقة فوق الجرح المشرع على الخاصرة العربية..
ويطيب للفتية أن يسموها "استراحة المقاتلين"!
إنها محاولة لإعادة شيء من التوازن إلى النفس الجريحة بعد الصعقة الحزيرانية!
وكانت اللقاءات الأدبية..
وتقرر أن نقوم بسلسلة من المحاضرات الأدبية والثقافية..بعيدًا عن أنين الجرح النازف..
كانت المحاضرة الأولى في البرنامج حوارًا نقديًا حول رواية "الحرام" ليوسف إدريس..وألقي على عاتق الإخوة "واجب بيتي"..أن يقرأوا الرواية الإدريسية. وألقي على عاتقي أن أحضر دراسة نقدية حول الرواية..لطرحها على بساط البحث والنقاش..في اللقاء القادم..
وتتكرر اللقاءات الأدبية..لتصبح مَعلمًا من معالم هذه "الروضة الثقافية"..التي تعدّ العدّة لتصبح "روضة أولغا".."جامعة" الأطفال..وغارسة بذور الآمال..
**
*فدوى طوقان.. في حيفا!*
كان لقاء مثيرًا.. صاعدًا من دائرة الحلم!
بعد أشهر من الجرح الحزيراني..
يتصل محمود هاتفيًا..ويأتي صوته سائلا: ماذا عندك هذه الليلة؟
- لا شيء خاصًا..
- أنت مدعو..
- ما الخبر؟
- عندي هذه الليلة.. فدوى!
- ومن فدوى؟
- فدوى طوقان!
- فدوى طوقان؟!!
**
لم أستطع أن أكبت دهشتي..فقد كانت فدوى طوقان بالنسبة لجيلنا شاعرة فلسطينية عصيّة على اللقاء..إنها في ذهننا أسطورة..وهي أخت شاعر فلسطين إبراهيم طوقان..وحفظنا شعرها غيبًا..ولا سيما "أعطنا حبا"..ونسخنا ديوانها ودواوين شعراء الحداثة عبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ونزار قباني.بقلم الحبر السائل..وكنّا نستمتع بعملية النسخ..ونتفنن في كتابة الخط وتزيين الدفتر..ولم نحلم في حياتنا أن نلتقي بالأسطورة..بفدوى طوقان ..
هذه الليلة نلتقي مع الأسطورة!
ويكون لقاء تاريخي مثير..مع الشاعرة الفلسطينية التي دغدغت وجدان جيل كامل من عشاق الشعر الحديث..
محمود درويش (المضيف)
والإخوة حنا نقارة محامي الأرض والشعب وحنا أبو حنا وسلمى الماضي وعصام العباسي وجورج طوبي وديب عابدي وإميل توما ومحمد ميعاري وعلي عاشور ونبيل عويضة وآخرون..آثرت الذاكرة إلا أن تكون خؤونًا لتخفي أسماءهم في الزوايا المعتمة..فالذاكرة خؤون وأي خؤون!
لقاء تاريخي ذو مذاق استثنائي..وحديث ذو شجون..وكشف مثير عن أوراق إبراهيم طوقان المطوية..يحفظها أبو طوني في الذاكرة..فيميط اللثام عن قصائد وطرائف ومقطوعات وأبيات "ممنوعة" تنتمي إلى ما اصطلح على تسميته بـ"الأدب المكشوف"!
وتنفتح أمام فدوى شرفة تطلّ على عالم مليء بـ"كنوز" إبراهيمية..غابت عنها..وتسمع بها لأول مرة..ولم تجد طريقها إلى ديوان إبراهيم طوقان..وتبدي فدوى دهشتها من هذه "الكنوز" الإبراهيمية..ولا سيما من شخص تربطه علاقة شخصية حميمة بأخيها إبراهيم..
فقد رأت أخاها إبراهيم يطلّ من عيني أبي طوني..حنا نقارة..وينطلق صوت إبراهيم شلال عذوبة..من حنجرة صديق العمر!
ونلقي في حضرتها بعضًا من قصائدها التي كانت تتقافز على ألسنة جيلنا وحفظناها عن ظهر قلب. أذكر منها "أعطنا حبا"..وهي قصيدة إنسانية من الطراز الأول..وقد تكرموا علينا بعد سنوات بعمل "بطولي" فأدرجوا القصيدة ضمن المنهاج..وفتحوا بذلك نافذة صغيرة أطلّ الطالب عبرها على رياض الأدب الفلسطيني!
ولا نريد أن نقلل من شأن هذه النافذة!
إنها الخطوة الأولى في مسافة الألف ميل..
*
تصغي فدوى إلى قصيدتها التي تنهمر حميمية ومحبة..
فيتدفق من عينيها طوفان من الفرح الغامر..
لا تستطيع فدوى أن تخفي فرحها..
لقد اكتشفت أصدقاء لأخيها إبراهيم تربطهم به علاقات ربيعية فيها الكثير من طيش الشباب..وقصص العشق المختبئة في زوايا القلب!
كما "اكتشفت" جيلا صاعدًا من أبناء شعبها..يعرفونها ويحفظون شعرها غيبًا..وفي نفسها تتوثب رغبة..لو تحضنهم واحدًا واحدًا..وتعانقهم واحدًا واحدًا..وتطبع عبر هؤلاء الفتية المثقفين..قبلة على جبين أخيها إبراهيم!
فقد رأت في كل واحد منهم أخاها إبراهيم..كان إبراهيم الغائب حاضرًا بيننا!
كان سيد الوليمة الثقافية..في هذه اللحظة التاريخية!
- ألله!.. ما أروعكم!
قالت فدوى.
**
كان هذا اللقاء الأول..
وأما اللقاء الثاني فقد كان بعد تلبية لدعوة شخصية لحضور حفل زفاف أحمد القسام..حفيد عز الدين القسام ..في قرية يعبد..قضاء جنين..
وعندما صعدتُ إلى منصة العريس معانقًا ومهنئًا..همس أحمد في أذني سرًا..جعلني أشعر بالرضى..فلم أستطع أن أخفي فرحي وسعادتي..
وعندما أقبلت فدوى مع اثنين من "حراسها" الشخصيين..وشقت طريقها ببطء بين جمهور المحتفلين..لم أستطع أن أخفي حزني..
لست أدري لماذا!
فلم تكن فدوى..فدوى!
**
**
*كيف انتصر ماسح الأحذية على حذاء الشاعر!؟*
- حكاية طريفة حدثت معي هذا اليوم.
قال محمود.
إنني أمرّ كل يوم من جانبه..يجلس إلى جانب صندوقه الخشبي المرصّع بالنحاس اللامع..ويستجدي أحذية المارّة!
لا أعيره اهتمامًا..يلحّ عليّ لأن يلمّع لي حذائي..فأرفض..لأنني أحب أن أتولى أمر حذائي بنفسي..ومتى أريد..وكيفما أريد..ولا أحب أن أسلم حذائي لأحد غيري..فللحذاء حرمته وكرامته..التي تفوق "كرامة" بعض العباد!
وإياك أن تتخلى عن كرامة الحذاء!
أرفض بشدة..ويلحّ بشدة..
ويرفض الحذاء بإباء..أن يرضخ لإرادة ماسح الأحذية وإغراءات فرشاته وحركاتها البهلوانية الرشيقة!
ويتكرر المشهد كل يوم..وخيّل لي أن صاحبي يظنّ أنني مخلوق غريب هبط عليه من عالم "البخلاء" للجاحظ!
ولم أدر سر هذا الإلحاح..الذي تجاوز حدّ الإزعاج المباح..
يتابع محمود:
إلى أن كان يوم!
أمس..عندما مررت به.."تلبّسني"..وشدّني من يدي..وحاول اغتصاب بحذائي..وصلبه على صهوة الصندوق!
إنها عملية اغتصاب للحذاء المسكين في وضح النهار..وعلى رؤوس الأشهاد!
لقد كان ينتظرني..ويتربص بحذائي..وفي نفسه أمر..
قال لي: أريد أن أمسح لك الحذاء وألمعه..مجانًا وبلا مقابل!
فسلمت أمري لله ولماسح الأحذية..وضعت قدمي اليمنى على المكان الذي يضع عليه العباد أقدامهم على صندوقه المطرز بالنحاس اللامع..
راح يجدّ في تنظيف "الفردة" اليمنى..وراح يمسحها ويلمعها ويتأملها ويتغزل بها..وينظر الفنان معجبًا بلوحته فنية!
ثم واصل المسيرة..وراح يلمّعها بحماس منقطع النظير..حتى غدت أجمل مما تصورت..إنها فعلا "لوحة فنية" تختال بردائها الأرستقراطي الأسود!..وانتظرت أن يكون نصيب أختها كنصيبها..فيمشي الشاعر في الشارع طاووسًا!
وهنا كانت الطامّة الكبرى..وكانت المفاجأة التي سقطت عليّ كالصاعقة!
فعندما أنزلت قدمي اليمنى عن "صهوتها" ووضعت أختها لتحل محلها..قال لي ماسح الأحذية بفرح مشوب بالمكر والغدر والنصر:
- آسف..لا أستطيع أن أمسح "الفردة" الثانية!
وظننت أنه يمازحني ويودّ أن يشدّ أعصابي ويوقعني في مطبّ..ورجوته متوسلا أن لا "يبهدلني"..
ولم يسعفني التوسل إليه..واستعدادي أن أدفع له ما يريد..مبلغًا كاملا حلالا زلالا..حفظًا لـ"توازن القوى" بين الحذاءين..وصونًا لفضيحة قد تكون فضيحة بجلاجل..وقد يكون لها ما بعدها!
وما أدراك ما بعدها؟!
على هذه الصخرة..سأقيم قلعتي!
وتمترسس في قلعته..وأصرّ على رفضه وتعنّته وإصراره..
فرفعتُ الراية البيضاء!
أحسست أنني أسير عاريًا..وتخليت آلاف العيون تنظرإليّ..إلى هذا "المخلوق" العجيب الذي يسير بحذاء ذي وجهين..وذي عالمين!
أنتظر لحظة الغروب..
أحاول أن أخبئ عاري بستائر الظلام!
فالليل أبو ساتر!
وسرت في الشارع..وأنا أخشى أن تسقط ورقة التوت..وتكون الفضيحة!
ويلمح بعض المارّة "كوميديا الأحذية!"..فينظرون إليّ بدهشة وسخرية..ويظنّون بي الظنون!
يشيرون إلى "المفارقة" الديالكتيكية في حذائي ذي الوجهين المنافقين..الأول أسود حالك..والثاني رمادي كالح!
ورأيت فيما يرى النائم..
كان الشاعر يحاول دفع الشك عن نفسه، وفي نفسه تتوثب رغبة جامحة لأن يقول: لا تظنوا بي الظنون..والذي نفسي بيده..ما صاحبكم بمجنون!!
**
وهكذا انتصرت عبقرية ماسح الأحذية على حذاء الشاعر!
(يتبع)
فتحي فوراني
السبت 1/11/2008